لا يجهل أكثر الناس معنى التخصص، ولكن هناك من يجهل طبيعة الكتابة في الجرائد وهناك أيضاً من يصنف المواضيع أو اهتمامات الناس إلى درجات ثقافية تتصل بالرفعة. الكتابة عن الاقتصاد أرفع من الكتابة عن الفن والكتابة عن الفن أرفع من الكتابة عن الرياضة. ومن جهة أخرى كتاب الملاحق الثقافية مثقفون بينما كتاب الملاحق الرياضية عوام وكتاب الاقتصاد مجرد مهنيين أو متخصصين. إذا حاولت أن أحلل منشأ هذا النوع من التصنيف تقودني خبرتي إلى ثقافة الحداثة التي شاعت فيها مقولة (أنا لا أنزل للقارئ على القارئ أن يصعد لي..) أو شيء من هذا القبيل. وفقاً لهذه النظرة القارئ مجرد تلميذ في مدرسة يفتحها الكاتب على صفحات الجرائد. لولا أن هذه العبارة صدرت من الحداثيين في الغرب كان يمكن أن يأخذني خيالي إلى الثقافة القديمة التي ترى أن العالم منقسم إلى قسمين: عوام وخاصة. ما زلت ترى هذه النظرة الاستعلائية عند بعض الفقهاء الذين يصرون أن هناك قضايا يجب ألا يطلع عليها سوى العلماء حتى وإن كانت تمس حياة الناس. هؤلاء ينطلقون من ظروف الماضي عندما كان التعليم مقتصراً على أبناء الصفوة ومحدوداً والتخصصات مدمجة في بعضها البعض. تجتمع الصفوة في صالونات مغلقة تتبادل المعارف بعيداً عن العامة المشغولين بقضايا عيشهم البسيطة.

انتشار التعليم حطم نظرية الصفوة. أصبح كل إنسان شريك في الرأي. في الوقت نفسه حطمت الجرائد نظرية الرفعة. كاتب الكورة لا يختلف عن كاتب الاقتصاد وكاتب الاقتصاد لا يختلف عن كاتب الأدب مما أنتج الزوايا الشاملة كهذه الزاوية التي تقرأها. الزوايا التي تتناول القضايا العامة واسعة الانتشار دون الخوض في التخصص. فالتخصص ليس مكانة الجريدة.

أقول قولي هذا بعد أن اطلعت على بعض التعليقات في منتدى الشبكة الليبرالية الشهيرة http://www.montdiatna.com:8686/ forum/index.php على مقالي حول نهاية جمهور النصر. بعضهم ناقش الموضوع وبعضهم استغرب أن أكتب في الكورة على أساس أنني مهتم بالقضايا الفكرية والحراك الاجتماعي والكورة أقل من أن يكتب عنها. حزنت جداً أن يكون بين الليبراليين وفي معقلهم من يقول مثل هذا. الليبرالية لا تقوم على فكر الصفوة وإنما على العقل المتسامح والخيارات المتعددة. ضد الطبقية الاجتماعية والفكرية أيضاً. اهتمامات الناس هي مصدر إلهام الكاتب العام. طالما أن الكورة تحتل مساحة كبيرة بين هذه الاهتمامات فهي أيضاً من اهتمام الكاتب. كتبت في هذه الزاوية عن كثير من التخصصات المتباعدة.

كتبت عن الرواية كتبت عن الأسهم كتبت عن السياسة كتبت عن الإرهاب.. إلخ، فلماذا ينتقد البعض وخصوصاً الليبراليين الكتابة عن الكورة تحديداً.

تستولي الكورة على مساحة كبيرة من الوقت الإعلامي على مستوى العالم ولم تعد منفردة. تتداخل مع السياسة والفكر الاجتماعي والاقتصاد وغيرها من نواحي الحياة. انقضى فكر الحداثة وانتهت النظرة الاستعلائية. ولكننا نحتاج إلى وقت طويل حتى نتشرب التسامح المعقود في الفكر الليبرالي.