نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور سعد بن عبدالعزيز الراشد في الأمسية الثقافية التي نظمتها مؤسسة بركات ومركز المهارات في جدة في الثالث من شهر ربيع الأول 1429هـ الموافق للحادي عشر من شهر مارس 2008م
يمكن القول إن الربذة تستحق أن يكتب عنها قصصاً عديدة، لا قصة واحدة، وقد يكون لدينا المبرر الكافي للتدليل على ذلك، فالربذة ارتبطت تاريخياً بعصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعصر الخلفاء الراشدين وامتداداً بالفترة الأموية وحتى منتصف الخلافة العباسية، ولم تكن الربذة مجهولة الاسم والموقع في العصر الجاهلي، فقد قال عنها بعض الجغرافيين الأوائل إنها من القرى القديمة في الجاهلية، وفي العصر الإسلامي اعتبرت الربذة واحدة من أهم المحطات الرئيسية على طريق التجارة والحج الذي ربط مكة المكرمة والمدينة المنورة بالعراق والمشرق الإسلامي، والربذة أيضا اشتهرت بأنها من أحسن الأماكن الصالحة لرعي الإبل والخيل فكانت بذلك منطقة محمية (حمى) لدولة الإسلام بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرضها تنبت أنواعا من الشجيرات والنباتات وتبقى معشبة طوال العام، وأوضحت الدراسات أن الغطاء النباتي من الأشجار والنباتات يصل إلى أكثر من خمسين نوعا ومن ذلك الرمث والحمض والسمر والسلم والسيال والطلح، وهذه الأنواع من النباتات تمد الإبل والخيول بطاقة غذائية عالية ومن أهمها نبات الحمض الذي يغطي سهل الحمى، فقد قيل إنه (إذا عقد البعير شحماً بالربذة سوفر عليه سفرتان لا تنقصان شحمه). وكان لحمى الربذة ولاة يعينون من قبل الخلفاء أنفسهم لرعايته وحمايته والمحافظة عليه، والإشراف على دواب الدولة الإسلامية من جمال وخيول وملاحظة تكاثرها حتى تصبح جاهزة للجهاد. ونظراً لأهمية موقع الربذة وفضائها الواسع ونقطة تلاقي الأودية والشعاب وملتقى الطرق، ولذلك شهدت المنطقة تحركات مكثفة بعد مقتل عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، فعسكر بها الخليفة علي بن أبي طالب فترة من الوقت في سنة 36هـ (656م) يجمع عدته تمهيدا للسير نحو البصرة، ونهج نفس الشيء الحسن بن علي حينما خرج من مكة المكرمة في طريقه نحو الكوفة سنة 60 هـ (679م)، وقد نزلها المرقع بن ثمامة الأسدي، أحد أعوان الحسين بعد حادثة كربلاء، وبقي فيها حتى توفي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان سنة 64هـ (683م) حيث غادرها بعد ذلك إلى الكوفة.
ولا يذكر اسم الربذة إلا ويذكر معها الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري الذي اختارها للسكنى في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة 30هـ (651-652م) وعندما قدم إليها أبو ذر، بني فيها سكنه ومسجده، وخلال إقامته بالربذة كان يتردد على المدينة حسب ما أوصاه به الخليفة عثمان، وقد توفي أبو ذر في الربذة سنة 32 هـ (653م) وتولى أمر غسله والصلاة عليه ودفنه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ومعه جماعة وصل عددهم زهاء ستة عشر رجلاً، كانوا قادمين في قافلة من العراق إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.
ويبدو أن وجود أبي ذر الغفاري بالربذة وغيره من الصحابة استهوى الكثير من الناس رجالاً ونساء للسكن فيها أو للمرور بها، إما طلباً لرواية حديث أو التأكد من صحته.
فيذكر أن جسرة بنت دجاجة العامرية روت عن أبي ذر سماعا عن عائشة.. وقد اعتمرت نحوا من أربعين عمرة ورأت أبا ذر بالربذة. ولعلنا نؤكد على نقطة مهمة وهو أن نزوح أبي ذر الغفاري إلى الربذة واختيارها سكنا له لم يكن صدفة، ولم يكن بسبب نفيه من المدينة في عهد عثمان حسب روايات بعض المصادر، فقصة إسلامه المبكرة تدل على أنه وقومه من بني غفار، وكانوا يسيطرون على ملتقى طرق التجارة إلى الشام، وتدل الروايات التاريخية أن أبا ذر بعد إسلامه وخروجه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى إلى المسجد الحرام وصرخ بأعلى صوته أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقام إليه القوم فضربوه فأكب عليه العباس وقال لهم (ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأنه طريق تجاركم إلى الشام) أو أنه قال: ويلكم تقتلون رجلاً من غفار ومتجركم وممركم على غفار) ومن الروايات التي تؤكد صلة أبي ذر الغفاري بالربذة أنه كان يحدث بالمسجد النبوي ووقف مرة بباب المسجد ويقول: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الرَّبذي..) وفي ضوء هذه الروايات وسياق إسلام أبي ذر، نستنتج أن الربذة كانت الموطن الأصلي لهذا الصحابي الجليل وقومه من بني غفار، قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها! وأسلم سالمها الله) وأبو ذكر الغفاري أول من حيا النبي بتحية الإسلام، وهو صاحب القصة المشهورة في غزوة تبوك، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيه (يرحم الله أبا ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده) وورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر) وقد نكتفي بهذه الإلماحات عن أبي ذر الغفاري ومكانته بين الصحابة وصلته بالربذة.
ولعلنا أيضا نشير إلى أن الربذة سكنها عدد من الشخصيات التاريخية وبعضهم مات فيها، ومنهم عتبة بن غزوان الذي اختط البصرة زمن عمر بن الخطاب، فقد مات بالربذة سنة 17هـ والصحابي محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة أحد من شهد معركة بدر وباقي المواقع الحربية، فقد اعتزل الفتنة زمن عثمان بن عفان وسكن الربذة بضع سنين ومات بالمدينة سنة 43هـ وسكن الربذة ومات فيها ودفن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عمرو المدني، فقد توفي سنة 70هـ، وعاش في الربذة الصحابي سلمة بن الأكوع الذي تزوج فيها وأنجب أولاداً وتوفي بالمدينة سنة 74هـ. وينسب إلى الربذة عدد من رواة الحديث ومنهم من استهوى السكنى فيها ومن هؤلاء على سبيل المثال موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي وأخواه محمد وعبدالله، وقد توفي موسى ودفن بالربذة سنة 153هـ وكان إبراهيم بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام يأتي الربذة كثيرا ويقيم فيها ويتجر بها وقد توفي إبراهيم بالمدينة المنورة سنة 230هـ، أما يحيى بن أكثم، قاضي القضاة زمن الخليفة المتوكل، فقد توفي بالربذة سنة 242هـ (856هـ)، وقد أشارت المصادر إلى أن عالم النحو الشهير يحيى بن زياد المعروف بالفراء، مات في طريق مكة (أو في طريق الحج) سنة 207هـ، وقد أكدت مجموعة من النقوش المنحوتة على واجهة صخرية في جبل سنام يتكرر فيها اسم يحيى بن زياد. والفراء هو صاحب المقولة الشهيرة (أموت وفي نفسي شيء من حتى).
وكانت الربذة من الأماكن المحببة لنفوس الأمراء والخلفاء من بني العباس للاستراحة والاقامة فيها، ومن هؤلاء أبو جعفر المنصور والمهدي وهارون الرشيد الذين أجروا الكثير من الإصلاحات والمشاريع الخيرية على طرق الحج بين العراق والحرمين الشريفين، وحذا حذوهم في تقديم الأعمال الخيرية، الأمراء والوزراء والقادة والتجار، وكان لسيدات البلاط العباسي أعمال مماثلة وفي مقدمتهن السيدة زبيدة بنت جعفر، زوجة الخليفة هارون الرشيد، التي بذلت العطاء وأنفقت الأموال في سبيل بناء المنازل والدور، وحفر الآبار وتشييد البرك على امتداد طريق الحج الذي عرف باسم (درب زبيدة)، وختمت السيدة زبيدة أعمالها الجليلة بعمارة (عين زبيدة) خدمة لحجاج بيت الله الحرام والمعتمرين والسكان على حد سواء ولا تزال آثار عيون زبيدة، بخرزاتها وقنواتها المحفورة في باطن الأرض أو المبنية على حواف الجبال، باقية حتى اليوم.
وفي ضوء المعلومات المتناثرة عند الجغرافيين والرحالة المسلمين عن الربذة، أنها كانت من أحسن المنازل على طريق الحج، وقد بلغت الربذة مجدها العصر العباسي المبكر، عندما حج الخليفة هارون الرشيد تسع مرات خلال فترة خلافته، (170-193هـ-786- 809م)، كان يصل إليها عبر طريق مباشر يربط الربذة بالمدينة المنورة مباشرة، في ذلك الوقت كانت القافلة الواحدة للحجاج القادمين من العراق، والمشرق الإسلامي تصل إلى أكثر من عشرين ألفاً من الجمال وكان الحجاج يقصدون مكة أفراداً أو جماعات، وكان هارون الرشيد عندما يحج يشايعه في طريقه الوزراء والقواد وأمراء الأجناد والعلماء والفقهاء والجنود والعساكر، كانت أخبار الأمصار والبلدان تأتيه، في كل منزل ينزله، على النجائب من مسيرة ثمانية أيام ويأتيه الجواب من يومه من مسيرة شهر ونحوه على أجنحة الحمام. وفي تلك الحقبة الزمنية من تاريخنا الإسلامي كان طريق الحج (درب زبيدة) ومحطاته ومنازله واستراحاته يشهد حركة بشرية نشطة لا تنقطع، وتزداد في مواسم الحج، وكان الطريق يشكل شريانا حيوياً وموردا اقتصاديا للبادية والحاضرة والمستقرين في البلدات والقرى البعيدة والقريبة، فيجلبون مصنوعاتهم اليدوية ومنتجاتهم الزراعية والأعلاف والخيول والدواب لمقايضتها وبيعها على الحجاج والتجار على حد سواء. وكانت الربذة واحدة من أهم البلدات على طريق الحج خاصة وأن حمى الربذة بعد عهد الخليفة المهدي العباسي (158-169هـ-775- 785م) لم يعد مقتصرا على إبل وخيل الدولة الإسلامية بل مشاعا بين الناس لرعي دوابهم. ولعل أهم ما كان يحتاجه آلاف الحجاج والمسافرين والمقيمين هو الماء، عصب الحياة للإنسان والحيوان والنبات، فكانت الربذة تشكل مستودعا لحفظ المياه، بسبب المرافق المائية المتوفرة فيها من آبار وبرك، وخزانات المياه التي أسست داخل منازل الربذة والتي بينتها أعمال الحفائر الأثرية.
إن الأحوال المعيشية في وسط الجزيرة العربية والحجاز، بدأت تتغير للأسوأ بسبب الفتن التي تسارعت على الدولة العباسية من خروج على سلطة الدولة من الفرق والطوائف وتمرد بعض القبائل. فقد ثار عدد من القبائل في وسط الجزيرة، بسبب عوامل اقتصادية ومطامع للسلطة، فأدت تلك الفتن إلى زعزعة الأمن والاستقرار، وإلحاق الأذى والقتل للحجاج من نساء ورجال وأطفال وشيوخ وقتل للدواب، وتخريب المنشآت المائية، وإرباك قوافل الحجيج من الوصول إلى الحرمين الشريفين بل وتعطيل فريضة الحج.
وبالرغم من جهود خلفاء بني العباس في بسط سلطة الدولة وإعادة الطمأنينة والاستقرار للحرمين الشريفين، إلا أن فتن القبائل ظلت مستمرة في فترات متقطعة على مدى قرون. وفي هذا الخضم من الإرباك الذي كانت تحدثه القبائل برزت فتنة كبري كادت أن تقوض أركان الخلافة العباسية، وهي فتنة القرامطة التي ظهرت مع نهاية القرن الثالث الهجري (بداية العاشر الميلادي) فقد سيطر القرامطة على مناطق شاسعة في شرق وشمال الجزيرة العربية، وكانت هجماتهم على محطات ومنازل طريق الحج تتسم بالشراسة وعدم الرحمة بالإنسان والحيوان، فقد كانوا ينفذون حملات خاطفة على قوافل الحجيج، فيأخذون أحمال البضائع الثمينة وأمتعة الحجاج والارزاق وخزائن الخلافة، وفي كل حادثة يقدمون عليها يقومون بقتل الحجاج دون رحمة أو شفقة ويتتبعون الناجين منهم فيجهزون عليهم وفي أحيان الكثيرة يتركون الحجاج على أوضاعهم ليلقوا مصيرهم جوعا وعطشا من حر الشمس وتتصيدهم الوحوش الكاسرة وكانوا يلجؤون إلى ردم الآبار والبرك بالجيف والتراب والحجارة.
وبلغ القرامطة ذروة سطوتهم في 8 ذي الحجة 317هـ (12 يناير 930م) عندما اجتاحوا مكة المكرمة واستباحوها قتلا وتشريدا ونهبا واقتلاعهم للحجر الأسود وتعرية الكعبة الشريفة من كسوتها وقلع بابها. وبعد عامين (319هـ- 932م) كانت نهاية الربذة على أيدي القرامطة بعد أن تعرضت للخراب والدمار من القبائل العربية، فأجبروا أهلها على الرحيل وخربت البلدة وبهذا يسدل الستار على مدينة إسلامية كانت من أحسن المدن على طريق الحج، وقد أصابت الدهشة الجغرافي محمد بن أحمد المقدسي حينما وقف على أطلال الربذة بعد سنوات من تخريبها فوصفها بقوله: (ماء زعاق وموقع خراب).
وهكذا انتهت قصة مدينة بقيت عامرة زهاء ثلاثة قرون وزيادة، وربما استمرت موردا للمياه وموطنا للرعي، لكن مسار طريق الحج تحول عنها ولم يقدم لنا المؤرخون والجغرافيون وأصحاب الطبقات وصفا لهذه البلدة قبل خرابها وكأنهم تركوا هذه المهمة للآثاريين ليكتشفوا أسرار هذه المدينة ومعالمها المعمارية ومرافقها والشواهد الحضارية فيها.
وظلت الربذة على مدى قرون وحتى عهد قريب، معروفة (اسما) ومجهولة موضعا. وكان الرحالة والجغرافي محمد بن عبدالله بن بليهد (ت: 1377هـ - 1957م) أول من حاول التعريف بحمى الربذة وتحقيق موقعها الذي لم يحالفه الحظ فقد قال: (والربذة لم تعرف في هذا العهد إلا أن تكون (الحناكية) أو قريبة منها، وهذا الاستنتاج سبب مزيدا من الحيرة أمام الباحثين. كان موقع الربذة موضع اهتمامي إلى عام (1389هـ - 1390هـ) (1971م- 1972م) عندما عزمت على إعداد دراسة شاملة للتحضير للدكتوراه عن آثار ومعالم طريق الحج من العراق إلى مكة المكرمة (درب زبيدة) فعكفت على دراسة المصادر التاريخية والجغرافية والأدبية لطريق الحج، واستخلصت منها معلومات مهمة، ساعدتني في تنفيذ أول رحلة ميدانية تتبعت فيها معظم مساراته وفروعه على امتداد مسافة تزيد على 1400 كيلو، استمرت رحلة البحث بشكل متواصل خلال الفترة من (ا ربيع الثاني - 10 جمادى الأولى 1393هـ الموافق 14 مايو إلى 11 يونيو عام 1973م).
وجاءت نتائج ما توصلنا إليه من استنتاجات عن الربذة متقاربة مع استنتاجات الشيخ حمد الجاسر، الذي نشر بحثا في مجلة العرب بعنوان (الربذة: تحديد موقعها)، كما دون عدد من أصحاب المعاجم السعوديين معلومات مفيدة عن الربذة على نفس النهج الذي سار عليه الشيخ حمد الجاسر ومنهم: محمد بن ناصر العبودي وسعد بن جنيدل وعاتق البلادي.
وجاءت استنتاجات الجاسر بقوله: أرى أن موقع الربذة (يقصد المدينة لا الحمى) فيما بين بركة أبي سليم وبين بئر النفازي، بل لا أستبعد أن هذه البئر كانت من آبار الربذة، وقد تكون البئر التي كانت تعرف قديما باسم بئر ابي ذر الغفاري فحرف الاسم).
ولمزيد من البحث الميداني وجمع المعلومات عن موقع الربذة والمنطقة المحيطة بها، وارتباطها بطريق الحج (درب زبيدة)، تم تنظيم رحلة علمية، استطلاعية مركزة على جزء من طريق درب زبيدة شمل مواقع أثرية ومعالم عديدة للطريق ومنها المكان الذي تقع فيه (بركة أبو سليم) والموسومة بهذا الاسم على خرائط المملكة الطبيعية والجغرافية، كما تم حصر المعالم الطبيعية وامتداد الغطاء النباتي للمنطقة وبالتالي توصلنا إلى قناعة بأن موقع البركة المشار إليها والمواقع الأثرية الأخرى الباقية حول المكان أو على امتداد درب زبيدة وكذلك المعالم الطبيعية، جعلتنا مطمئنين أننا في الموضع الحقيقي الذي نشأت فيه مدينة الربذة، وقد نشرنا في أعقاب تلك الرحلة ما توصلنا إليه من نتائج. فالربذة تقع إلى الشرق من المدينة المنورة بميل نحو الجنوب بمسافة تقدر بحوالي 200 كيل، على حافة جبال الحجاز الغربية على خط عرض 24 40 وخط الطول 41 -18، ويبعد عنها خط القصيم - مدينة المنورة شمالا بحوالي 70 كيلا، وإلى الجنوب منها بمسافة 150 كيلا مهد الذهب (معدن بني سليم قديماً).
لقد مهدت الدراسات الأولية عن موقع الربذة للبدء في أعمال البحث والتنقيب والكشف عن حضارة هذه المدينة من جهة، ومن جهة أخرى تدريب طلاب قسم الآثار والمتاحف، على أعمال التنقيب تحت إشراف أساتذة مختصين، وقد بدأ الموسم الأول للحفريات الأثرية خلال الفترة من (7 جمادى الثانية إلى 6 رجب 1399هـ الموافق 3-3-مايو 1979م).
كانت رؤيتي الشخصية في اختيار موقع الربذة لأعمال التنقيب والبحث الأثري مبنية على الآتي:
1 - صلة المكان بالبدايات الأولى للتاريخ الإسلامي وارتباطه بأوائل الصحابة.
2 - أن المنطقة المحيطة، أرض رعوية تتبع الدولة الإسلامية الناشئة، لتربية الإبل والخيول وتكاثرها وتهيئتها للجهاد وغيره، فقد أشارت المصادر أن الخليفة عمر بن الخطاب كان يحمل على الجهاد في سبيل الله على أربعين ألف بعير في العام الواحد من حمى الربذة.
3 - أن الربذة نشأت في حقبة زمنية متتابعة: العصر الإسلامي المبكر، والفترة الأموية وحتى عصرها الذهبي في مجد الخلافة العباسية المبكر، ثم أصابها ما أصابها من التخريب والتدمير أدى إلى هجرها وأصبحت أثراً بعد عين.
4 - من خلال النصوص التاريخية والجغرافية استنتجنا أن الموقع الأثري سيقدم لنا دلائل مفيدة عن الحضارة الإسلامية من ناحية التخطيط المعماري والمنشئات الهندسية والمرافق المنزلية والصناعات المتعددة الفخارية والخزفية والمصنوعات الحجرية والزجاجية والأدوات المعدنية والحلي وأدوات الزينة والكتابات والنقوش والمسكوكات وغيرها مما صنع في الربذة أو جلب من حواضر الدولة الإسلامية القريبة والبعيدة.
5 - كان أملنا أن نتائج الكشف الأثري في الربذة ستقدم دلائل مترابطة تصحح الكثير من المفاهيم عن العمارة الإسلامية المبكرة والصناعات المتعددة والشواهد الأثرية المكتوبة خاصة أن الحواضر الإسلامية الأولى لم تقدم لنا نتائج مترابطة مع مسيرة التاريخ الإسلامي بسبب التغيرات المتسارعة لتلك الحواضر مثل البصرة والكوفة وبغداد وسامراء أو حتى مدينة الحيرة التي كان لها وجود في فترة ما قبل الإسلام.
6 - أن أعمال التنقيبات الأثرية التي تمت في المواقع الإسلامية في العراق والشام، خلال الفترات الاستعمارية وما واكبها من تأويلات في تفسير هوية الحضارة الإسلامية وجذورها وضعت أمامنا الكثير من الإشكاليات المعرفية.
لقد جاءت نتائج الكشوفات الأثرية في الربذة ولله الحمد مهمة للغاية، فقد أمدتنا الحفائر الأثرية وعلى مدى خمسة وعشرين موسما بمعلومات وفيرة عن أسلوب تخطيطها والعناصر المعمارية فيها واللقى الأثرية للأواني الفخارية والخزفية والحجرية والمعدنية والمسكوكات والكتابات والحلي وأدوات الزينة وغير ذلك من الآثار.
لقد تركز الاستقرار البشري لمدينة الربذة في منطقة، مستطيلة الشكل، تمتد من الشرق إلى الغرب، ولم تكن تبرز أي آثار شاخصة من أطلال المدينة، سوى تلول أثرية غير واضحة المعالم، ومن أبرز الآثار المشاهدة في الجزء الشرقي من الموقع إحدى برك درب زبيدة، وهي بركة دائرية الشكل يصل قطرها إلى 65 مترا وعمقها 4.70متر ولها مصفاة (حوض ترسيب) مستطيلة الشكل بمساحة 55*17 مترا وبعمق 3.15 متراً وإلى الشمال منها بحوالي الكيلين بركة أخرى مربعة الشكل 26*26 متراً، وكلا البركتين تتميزان بهندسة معمارية بديعة. كذلك تم تحديد مقبرة المدينة القديمة في الجزء الجنوبي الغربي منها، ومن خلال مساحة المقبرة اتضح لنا أن الربذة لم تكن صغيرة في حجمها.
بدأت أعمال الموسم الأول للحفائر الأثرية باختيار مواقع أسميناها: (أ، ب، ج) ومع استمرارية أعمال التنقيب أضفنا موقعين آخرين هما (د، هـ) وتيمنا بمطلع القرن الخامس عشر للهجرة اخترنا تلا أثريا كبير الحجم أطلقنا عليه مسمى (401) ثم توالت أعمال التنقيبات حتى اكتمال الموسم الخامس والعشرين للعام 1423هـ -1424هـ وتم خلال هذه المواسم الكشف عن بقايا المنشئات البنائية والظواهر المعمارية المتنوعة والتي تشكلت من آثار المساجد والمنازل والقصور المحاطة بأسوار وجدران سميكة المدعمة بأبراج دائرية ونصف دائرية من الخارج وعلى المداخل، ومرافق الخدمات من خزانات مياه محفورة ومبنية تحت أرضيات الغرف والتنانير والأفران المخصصة للطبخ والتصنيع وخزائن الحبوب وقنوات المجاري وغير ذلك من المرافق. وخلال أعمال التنقيبات الأثرية تم التركيز على تكوين رؤية للمنشآت المستقلة وترابطها مع المباني المجاورة فظهرت لنا صورة واضحة وجلية عن النسيج المعماري للربذة وعناصرها الهندسية والزخرفية وطبيعة المواد المستخدمة في البناء. ويمكن تلخيص أبرز المكتشفات المعمارية والمرافق والمعثورات الأثرية المتنوعة حسب الآتي:
القصور والمنازل
تميزت قصور ومنازل الربذة بأسلوب معماري ونسيج هندسي مميز، فهي رباعية التخطيط، ومتعامدة مع القبلة، وبنيت أساسات الجدران فيها بحجارة غير منحوته وغير متساوية الأحجام، وترتفع الأساسات أحياناً عن مستوى الأرضيات إلى أقل من المتر، وتتباين الجدران الحجرية من حيث السماكة حسب حجم المبنى، فيصل عرض الجدار من متر إلى مترين بالنسبة للأسوار الخارجية والجدران الرئيسية داخل كل مبنى أما العناصر الداخلية للغرف والمرافق فتقل فيها سماكة الأساسات الجدارية.
وبالنسبة للجدران التي تعتمد عليها الأسقف فجميعها بنيت باللبن، وقد عمل البناؤون على تقوية الأسوار والجدران الخارجية بأبراج دائرية ونصف داشرية على المداخل والزوايا الخارجية لكل مبنى، وعلى امتداد الجدران وفقا لطول كل جدار، وظهر لنا وجود أنواع من جذوع الأشجار مثبتة على بشكل عرضي على بعض الأسوار والجدران وخاصة على المداخل، ويبدو أن المواد الخشبية هذه وضعت بهدف الحد من حدوث شروخ في الجدران في حالات التمدد وتكون مقاومة عند وقوع زلازل، خاصة أن منطقة الحجاز وشمال غرب الجزيرة العربية وبلاد الشام تعرضت لحوادث الزلازل في فترات ما قبل الإسلام وبعده. وبنيت الغرف الداخلية على شكل وحدات يجمعها فناء داخلي أو ساحة، وفيها مرافق الخدمات من أفران للطبخ ومستودعات حفظ المياه ومخازن الحبوب وغير ذلك من المرافق الخدمية. وتتراوح مساحات الغرف للقصور والمنازل في أغلب الأحوال حوالي: 2.30*30.2م.
وتغطي الجدران من الداخل طبقة جصية ناعمة، وعثر على بعضها زخاف هندسية ورسوم ملونة، ومن الاكتشافات المهمة لوحة جصية ملونة عليها شريط كتابي يشتمل على جزء من البسملة وبداية آية الكرسي في سورة البقرة وتدل هذه العناصر الزخرفية أن مباني الربذة على درجة من الثراء الفني والزخرفي ويذكرنا هذا الثراء بالمنشئات المعمارية الإسلامية المبكرة في بلاد الشام والعراق. وقد أمكن تمييز عدد من القصور ومنها المبنى (أ) الواقع في شرق الربذة وله بوابة شمالية يحميه برج في الركن الشمالي الشرقي وهو سداسي الاضلاع ويبدو أنه من دورين وزود بسلم يلتف حوله. ومن القصور الأخرى أو المنازل الكبيرة مبنى (ب) وهو عبارة عن كتلة معمارية ذات تصميم مميز على شكل حذوتي فرس متداخلتين وغير متساويتين، وتتكون جدران المبنى من سبعة اضلاع مدعومة بسبعة أبراج ركنية، المبنى أيضا مزود بالمقومات الأساسية للمرافق الخدمية. ويشكل المبنيان (د) و(هـ) نمطان معماريان يبرر النشاط الحيوي لسكان الربذة، فالمبنى الأول يدل على أنه سوق المدينة، فالظواهر المعمارية في هذا النسيج المعماري يشتمل على عشرات من خزانات المياه المتقاربة وأفران الطبخ والمواقد لتحضير الأطعمة ومستودعات حفظ الحبوب وأماكن صهر بعض أنواع المعادن، فقد عثر على بعض القطع التالفة من قوارير وأنابيب وبوتقات عليها علامات الصهر. أما الكتلة المعمارية الأخرى فهو عبارة عن منزل رئيسي رباعي الشكل مدعم بأربعة أبراج ركنية وتتصل به وحدات معمارية تمتد شمالا وجنوبا وغربا.
وكشفت أعمال التنقيب حول المبنيين بوجود امتدادات بنائية ترتبط بهما وتتكون من وحدات سكنية ومرافق خدمات متعددة.
ويعد موقع (401) أكبر وحدة سكنية فهو يشكل أحد أحياء الربذة في جزئها الجنوبي ويفصله عن المدينة أحد فروع وادي الربذة الذي يتجه من الشرق إلى الغرب. وتتميز هذه المنطقة بتكاملها وكبر حجمها. فقد أنشئت داخل سور ضخم رباعي الشكل تمتد أضلاعه إلى حوالي 69*57م، ويصل عرض السور إلى حوالي 2.20م، ودعم السور بأبراج دائرية في الزوايا، ونصف دائرية على امتداد أضلاع السور، ويصل نصف القطر في بعض الأبراج إلى حوالي 2.25م، وتقع البوابة الرئيسية لهذا المجمع السكني في منتصف الضلع الشمالي وتؤدي إلى ساحة وسطية. وقد أنشئت الغرف السكنية على شكل وحدات متقابلة من الجهة الشرقية والغربية مع وجود وحدات متظاهرة معها ويتفاوت عدد الغرف في كل وحدة سكنية، وتصل أبعاد الغرف إلى 3*3م، وبين هذه الوحدات ممرات وطرق ضيقة وساحات صغيرة استغلت جميعها للمنافع اليومية والصناعات واستغلت الأرضيات لحفر تجاويف لردم النفايات وتبليطها مرة أخرى. ويتضح من النسيج المعماري لهذه الوحدة السكنية الكبيرة أو الحي السكني أنه متكامل الخدمات بوجود مستودعات حفظ المياه تحت مستوى الطبقة البائية ووجود أفران الطبخ والصناعات وتأمين هذه الوحدة الكبيرة بحفر بئر للمياه في الطرف الجنوبي الغربي للسور ووجود مسجد في الجبهة الجنوبية من المجمع.
مساجد الربذة
أبرزت الحفائر الأثرية في الكشف عن مسجدين رئيسيين وهما:
المسجد الجامع
وهذا المسجد كشف عنه في الجهة الغربية من الربذة، ولعل هذا المسجد هو مسجد أبي ذر الغفاري الذي اختطه بنفسه عندما قدم للربذة، وقد ذكرت المصادر أن بالربذة مسجدان أحدهما مسجد أبي ذر. ويتميز هذا المسجد بتخطيط معماري متطور، فمساحته تصل حوالي 22.75م*20.15 متر، ويتكون من رواقين أماميين يتقدمهما محراب مجوف وله ثلاثة أروقة، شرقي وغربي وجنوبي، وتوجد ساحة وسطية مكشوفة بطول 9*16 متر، ويوجد بناء مستطيل الشكل يمتد من جدار القبلة باتجاه الرواق الأمامي بطول 70سم * 170م، ونتوقع أن يكون هذا التكوين المعماري قاعدة لمنبر المسجد، وقد أمكن تمييز عدد 21 قاعدة حجرية كانت تحمل سقف المسجد وقد تبين لنا أثناء الكشف الأثري لجدران وأعمدة المسجد وتفاصيله المعمارية أن المسجد فرشت أرضيته كانت مفروشة بالحصى وتتجدد الفرشة بين قوت وآخر كما أم أن جدران المسجد كانت تحمل طبقة جصية وأن المسجد فيما يظهر أنه بني بكامله بالحجارة حيث لم نجد أي أثر لكتل طينية أو لبن وأن الركام الذي كان يغطي الموقع هو كتل حجرية، وتصل المساحة الإجمالية للمسجد حوالي (459م2) وتصل المساحة الداخلية حوالي (380م2) وهذه المساحة كافية لاستيعاب ما يقارب ستمائة مصل.
ومما يميز هذا المسجد أنه بني في مكان متطرف من المدينة السكنية وبالقرب منه واحدة من الآبار الرئيسية في الربذة والتي لا تزال باقية حتى اليوم. ولم نتمكن من معرفة مكان مئذنة المسجد ونتوقع أن تكون قد تهدمت في المكان المنخفض بين المسجد والبئر. وكان مسجد الربذة منذ بنائه ملتقى للعلماء والمحدثين الذين يقصدونه من كل مكان، خاصة أن الربذة مدينة إسلامية مبكرة وموقعها مميز على طريق الحج.
ففي ترجمة لمحمد بن كعب بن سليم القرظي المدني (توفي سنة 108هـ) أنه: كان لمحمد بن كعب جلساء من أعلم الناس بالتفسير، وكانوا مجتمعين في مسجد الربذة، فأصابتهم زلزلة، فسقط عليهم المسجد فماتوا جميعا تحته. ومحمد بن كعب قيل عنه إنه كان من أوعية العلم وأنه كان من أئمة التفسير وكان ثقة عالما كثير الحديث ورعا فهذه المعلومة مع غيرها من الأدلة والقرائن تساعدنا على التحديد الدقيق للمرحلة التاريخية لمدينة الربذة وأهمية مسجدها في العصور الإسلامية المبكرة.
مسجد المنطقة السكنية
هذا المجسد تم اكتشافه في المنطقة السكنية (401) ويختلف في تخطيطه عن المسجد الجامع، ومساحته 12.30* 10.30م) وله محراب مجوف مربع الشكل، ويتميز المسجد رغم صغر مساحته بسماكة جدرانه وله أربع قواعد أعمدة سميكة، مربعة الشكل كانت تحمل سقف نصف مقبب (مقوس) ويظهر من خلال الكسر الجصية المتساقطة أن جدران المسجد كانت مغطاة بطبقة جصية عليها تلوين زخرفي. ومن النسيج المعماري للمباني المتصلة بالمسجد يتبين أن المسجد كان له أربعة أبواب صغيرة، ويحاذي الباب الغربي كتلة بنائية ربما كانت قاعدة لمئذنة المسجد. وفي ضوء التخطيط المعماري لهذه المنطقة السكنية من الربذة مساجد أخرى قد اندثرت وضاعت معالمها مع الزمن وسبب توقعنا هو كثافة الوحدات السكنية وتنوعها وترابط النسيج المعماري بعضه ببعض وبالتالي فإن سكان الربذة والقادمين إليها كانوا بأعداد كثيرة.
المنشآت المائية
اعتمدت مدينة الربذة على مياه الأمطار السيول، والآبار التي وصل عددها ما يزيد عن اثني عشر بئرا حفرت في النطاق العمراني للمدينة، واستفاد سكان الربذة من البركتين المجاورة لها وهما من برك طريق الحج (درب زبيدة) بالإضافة إلى البرك الأخرى على امتداد الطريق وكذلك الآبار الأخرى المحفورة في محيط الربذة وتجمعات المياه في الينابيع والتجاويف الصخرية والأحواض الطبيعية. لكن أبرز ما تتميز به الربذة هو تصميم مستودعات لحفظ المياه (خزانات) بنيت تحت مستوى أرضيات الغرف والساحات الداخلية والممرات وفي كل الوحدات السكنية، وبنيت هذه الخزانات بطريقة هندسية بديعة، فيصل متوسط عمق الخزان الواحد حوالي المترين تحت مستوى الأرضيات وبنفس الطول، وقد استخدمت الحجارة في بناء الجدران وغطيت بطبقة جصية قوية وسقفت الخزانات بجنادل حجرية مستطيلة ومحكمة الإغلاق، وكل خزان زود بفتحة علوية لها رقبة عليها غطاء حجري. وتملأ هذه الخزانات بالمياه بإحدى طريقتين: الأولى بواسطة أنابيب حجرية أو فخارية صممت بطريقة فنية لتمرير مياه الأمطار الساقطة على أسطح المنازل إلى داخل الخزانات، والطريقة الثانية فيما يبدو بنقل المياه مباشرة من البرك والآبار لهذه الخزانات عند الحاجة أو في غير مواسم الأمطار. إن تصميم مستودعات حفظ المياه بهذا الأسلوب الهندسي ضمن للربذة الطمأنينة والأمان بتوفير المياه النقية وبوسائل متنوعة، فالماء عصب الحياة للإنسان والحيوان ومادة أساسية لتحضير الأطعمة والصناعات وأغراض أخرى عديدة لقد تم الكشف عن عشرات الخزانات بعضها على شكل مجموعات والبعض الآخر خزان أو خزانين تحت أرضية كل غرفة وحسب المساحة المحددة، زود بعضها بأنابيب فخارية وجصية على أسطحها لتوزيع المياه بينها، وبعضها بأنابيب فخارية وجصية على أسطحها لتوزيع المياه بينها وبعضها زود بخزانات ترسيب (صفايات) قبل دخول المياه للخزانات الرئيسية. وقد وصل عدد الخزانات المكتشفة ما يقارب مائتي خزان، وحرص سكان الربذة الاستفادة من هذه الخزانات في جميع الفترات والمراحل البنائية، فقد اكتشف بعضها تحت مستوى فترات سكنية مبكرة بقيت مستخدمة في الفترات السكنية اللاحقة وهذا في حد ذاته يعد فطنة وقدرة هندسية فائقة وخبرة فريدة لدى الأوائل من المهندسين المسلمين. وجاءت هذه التقنية المتطورة لحفظ المياه نتيجة لتزايد عدد من أعداد قوافل الحجيج فقد كانت القافلة الواحدة تصل إلى 15 إلى 20 ألفا من الإبل، وكانت تصل قيمة راوية الماء في أوقات الجدب والفتن إلى دينار.
اللقى والمكتشفات الأثرية
تعددت المكتشفات واللقى الأثرية خلال أعمال التنقيبات الاثرية وأعمال المسوحات في المنطقة المحيطة بالربذة وتعد الكتابات والنقوش الصخرية على المرتفعات والنتوءات الصخرية من الدلائل الأثرية المهمة على الاستقرار السكاني بالربذة أو القادمين إليها فمنها ما عثر عليه في جبل سنام أحد المعالم الجغرافية المهمة شمال الربذة ومن أهم الأسماء التي نوهنا عنها في بداية هذه الورقة العالم الشهير يحيى بن زياد المعروف بالفراء الذي توفي بالربذة سنة 207هـ وهانك نقوش تم اكتشافها في جبل الربذة إلى الغرب من المدينة السكنية التي اشتملت على أدعية مأثورة بطلب المغفرة والرحمة للأشخاص الواردة أسماؤهم في تلك النقوش ومن أسماء الشخصيات: عبدالله بن خباب (حباب) وكريم بن حطاب، وعثر على واجهة صخرية في جبل الربذة الجنوبي نقوش عليها اسم شخص يدعى دريد بن عبد ربه، وعثر على كتابات منقورة على النتوءات الصخرية المتاخمة للمنطقة السكنية من الجهة الشمالية الغربية وتتضمن أسماء: سعد بن زيد، حباب بن زيد ومحمد بن نافع وغيرهم. ووجدت نصوص كتابية محفورة على الطبقة الجصية في بعض الجدران ولكنها غير مكتملة. وعثر في مقبرة المدينة على شواهد حجرية لمن توفي ودفن بالربذة من رجال ونساء ومنها شاهدان حجريان لشخصية نسائية ذكرت باسم (أم عاصم بنت عبدالله) ولعل عاصم هذا هو: عاصم بن عمر بن الخطاب (أبو عمرو المدني) الذي توفي بالربذة كما ذكرنا سابقا سنة 70هـ، وأمه جميلة بنت ثابت بن أبي الأفلج الأنصارية. وتم العثور على نصوص كتابية على ألواح العظام وهي عبارة عن إيصالات تجارية وعلى بعضها أسماء للمكاييل والموازين كالمد والكيلة والرطل والمكوك وتم العثور على كسر فخارية وخزفية عليها بقايا كتابات متطورة من الفترة العباسية ويبدو أن الجرار التي عليها نصوص كتابية كانت معدة من قبل الخلفاء وأمراء بني العباس لسقاية الحجاج والمسافرين طلبا لثواب الله.
أما المعثورات التي تم اكتشافها خلال أعمال التنقيب فهي كثيرة ومتنوعة، ونجملها حسب الآتي:
* المسكوكات.
* الأواني الفخارية والخزفية.
* الصناعات المعدنية.
* الأدوات الخشبية.
* الزجاج.
* الحلى وأدوات الزينة.
* الأدوات والأواني الحجرية.
ومن الدراسات المبدئية لهذه المعثورات تبين لنا أن الربذة كانت على درجة عالية من الحيوية من حيث تنوع الصناعات وبالأخص الأدوات الفخارية والخزفية والحجرية والزجاجية، فقد تم العثور على أوان كاملة من الجرار والأطباق والأكواب والقوارير، أما الكسر من مختلف الأواني فهي كثيرة ومتنوعة، وعليها عناصر زخرفية بديعة تدل على دقة الصناعات وخبرة الصناع ومقدرتهم وملكتهم في الحرف والصناعات، وقد أعطتنا هذه المكتشفات دلالة واضحة عن الفترة الزمنية التي شهدتها الربذة خلال ثلاثة قرون وأكثر من تاريخها، ومن هذه المعثورات ما هو مصنوع محليا في الربذة ذاتها، وتأتي القطع النقدية المكتشفة لتعطي دلالة واضحة على الثراء الاقتصادي للربذة فقد عثر على دنانير ذهبية ودراهم نحاسية وفلوس نحاسية عليها أسماء الخلفاء والوزراء، تحمل عددا من مدن الضرب الإسلامية مثل مكة والكوفة وبلخ وكرمان ومدينة السلام. وتتراوح السنوات التي تعود لها المسكوكات المكتشفة إلى عصر صدر الإسلام وإلى الفترة الأموية والخلافة العباسية في عصورها الزاهية، ومن الخلفاء الذين وردت أسماؤهم على النقود المكتشفة أو تتوافق تواريخ سك العملة مع فترات حكمهم الخلفاء: الوليد بن عبدالملك، وأبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمعتضد بالله وغيرهم.
الخلاصة
وفي ضوء هذا العرض الموجز عن مدينة الربذة وآثارها المعمارية ومكتشفاتها المتنوعة نستخلص أن هذه المدينة كانت من الحواضر الإسلامية الكبيرة في قلب جزيرة العرب، وشكلت مركزا اقتصاديا وثقافيا مهما ومحطة رئيسية على طريق الحج. ومما يجعل الموقع الأثري لهذه المدينة مهما ومميزا هو أن الربذة بعد خرابها في عام 319هـ (932م) ارتحل عنها سكانها ولم تعد منازلها وقصورها ومرافقها مستخدمة، فهذه الفترة التاريخية التي اتصفت بخلل الأمن وتعدد الفتن كانت بداية لمرحلة هجرات القبائل العربية إلى خارج الجزيرة العربية كما أن طرقا فرعية استخدمت ولم تعد الربذة من المحطات التي تقصدها قوافل الحجيج ولم يعد إليها الاستقرار وربما بقيت الآبار والبرك مستخدمة على مدى قرون من قبل أبناء البادية وعابري السبيل.
وإذا كانت الربذة قد انتهت كمدينة إسلامية، فإن آثارها المكتشفة أمدتنا بمعلومات وفيرة عن الحضارة الإسلامية المبكرة كما أن التراث المعماري للربذة يوضح لنا صورة جلية عن طبيعة الحضارة الإسلامية بمفهومها الشامل في العصر الإسلامي المبكر في الجزيرة العربية عامة والحجاز ووسط الجزيرة العربية على وجه الخصوص. ويستطيع طلاب العلم والمعرفة الاطلاع على آثار الربذة في المتحف الوطني أو في متحف الآثار بجامعة الملك سعود أما الموقع الأثري لهذه المدينة الإسلامية فنتطلع إلى جهود الهيئة العليا للسياحة والآثار لتأهيل الموقع للسياحة الثقافية ودعم نشر نتائج أعمال التنقيبات الأثرية بالموقع. والله الموفق.
salrashid@yahooo.com