بادئ ذي بدء فإن التجارة التي يتصف أطرافها بالصدق والأمانة، وتتم فيها حالات البيع والشراء على الوجه المشروع، تُمثِّل مصدراً من مصادر الرزق الحلال، وسبباً من أسباب الكسب الشريف، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، حيث إن اكتساب المال على الوجه الصحيح، وتأدية ما فيه من الحقوق، وجعله وسيلة إلى كل ما فيه الخير، يُعتبر أمراً من الأمور التي حثَّ عليها الدين الإسلامي، وأمر بالموازنة بين طلبها وبين طلب العلم والقيام بالعبادة، باعتبار أن البحث عن الرزق الحلال وتأمين مصادره بالنسبة للمسلم، يُعد فريضة مكملة لفريضة العبادة، لما في ذلك من ضمان البقاء واستمرار الحياة من جانب، والمساعدة على الوفاء بكل ما هو مطلوب من الأمور التكليفية والتعبدية من جانب آخر، فضلاً عن المردود الاقتصادي الذي تجنيه الأمة من التجارة وانعكاس تأثير تجارتها على قوتها في الداخل ومكانتها في الخارج، وقد سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم.. أي الكسب أطيب؟ فقال: (عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور).. وقال في حديث آخر: (ما أملق تاجر صدوق). |
وبما أن غلاء الأسعار في الغالب هو نقيض البيع المبرور وآفة الكسب المشروع فإنه مما لا شك فيه أن بعض التجار بمجرد أن ينتهزوا فرصة طروء حالات الغلاء الوافدة، أو تلك التي قد تفرضها بعض المواقف العارضة، ليتلاعبوا بالأسعار، فإن هذه الممارسات التي يمارسونها، يُنظر إليها بأنها تنم عن تقصير ديني ووطني وأخلاقي، بوصف ذلك يعكس نوعاً من أنواع الاستغلال المقنَّع الذي يهدف هؤلاء من ورائه إلى الحصول على مكاسب مادية تضر بالمصلحة العامة وتلحق الأذى بالأمة. |
وبمعنى آخر فإن ركوب موجة الغلاء، والرضا بها ومباركتها، بغية الاستفادة منها إلى الحد الأقصى ضد مصالح الأمة وخيرها العام، وكذلك اقتناص الحالات التي يندر فيها توفر بعض السلع في السوق لزيادة أسعارها والمساومة عليها، ما هي إلا ممارسات ذات نزعة استغلالية وسمة احتكارية تقوم على الاستفادة غير المبررة من وضع من الأوضاع المتغيرة، إذ إن من استفاد من ندرة السلع ليقبض ثمناً باهظاً لها، أو ركب موجة الغلاء ليحصل على أكبر فائدة منها، قد لا يختلف هذا الأمر كثيراً عن من احتكر هذه السلعة، لأنه يتوقع ارتفاع سعرها في وقت قريب، أو كشف عن الوجه القبيح لاستغلاله، دونما تحرُّج أو مواربة، فالاستغلال والاحتكار بشقيهما سواء المستتر أو الظاهر هما وجهان لعملة واحدة، يقترب فيهما الشكل والمضمون، ويتفق فيهما الشعار المرفوع والهدف المبيَّت، كما أن انتهاز الفرص في الاتجاه السلبي وحثّ الخطى لجني المكاسب منها، ينتج عنها استغلال سافر وآخر مقنع، تبعاً للربح الفردي والنظرة الضيقة، وما يقابل هذا الصنيع من خسارة جماعية ذات محيط واسع، تمس المصلحة العامة بطريقة يعتمد فيها تقدير نسبة الاستغلال في إطاره الزمني ومفهومه المقنع ومعدل حصوله على مستوى التأثير الحاصل وقياس مفعول الأثر والمؤثر، وكلهما أمور نسبية يحس بها المتضرر منها ويحكم عليها هو أكثر من غيره، ويحدث كل ذلك في ظل تغييب الورع واستفحال الطمع على النحو الذي تطغى معه نوازع الشر على نوازع الخير، بحيث تعجز الثانية عن مكافحة الأولى تحت وطأة الحرص الشديد على الإثراء السريع وزيادة الأرصدة المالية، مهما كانت الوسائل المتوسلة والطرق الموصلة. |
والذين هذا حالهم في زمن السلم، والوطن يتمتع بالخير العميم، ويرفل في النعيم المقيم، وهم يمتلكون قدراً من الثراء وينعمون بالأمن، ورغم هذا تدفعهم الأثرة، والنفوس الأمارة إلى بيوع غير مبرورة ومطامع مجحفة تجلب لهم الغنى ولغيرهم الإملاق عن طريق العبث بالأسعار ومجاراة ركب الغلاء والانضمام إلى قافلته، دون أن تجد الورع أو تعرف القناعة إلى أنفسهم سبيلاً، بل يتملكهم حب الطمع ويستهويهم الجشع، فكيف يكون مآلهم، وما هو صنيعهم في وقت الحرب واشتداد الأزمات واحتدام الملمات؟.. لا جرم أن الجواب المُثار حول هذا الاستفسار سوف يكون مؤلماً، لأن المستغل يجد في ضباب الحرب وغبار الأزمات ما يغطي استغلاله، ويجعل الفرص مواتية له لممارسة ضلاله، والإمعان في سوء أعماله، متخذاً من غايته ما يبرر وسيلته، ومقدماً ثروته على وطنيته وديناره على داره، منطبقاً عليه قول الشاعر: |
وصارت خدمة الأوطان فخاً |
تصاد به الجيوب لا القلوب |
وكم ملئت جيوب من نضارٍ |
بذاك كأنما الوطن الجيوب |
وممارسات الغلاء، وما يصاحبها من منافسات ومماحكات تجارية، تهدف جميعها إلى جلب الثروة لأصحابها على حساب المستهلكين، مكرِّسة طبقية الثروة، ومجسدة مظاهر الطبقية، بالشكل الذي يمهد الطريق نحو تقسيم المجتمع، وجعله يتألف من طبقتين تتمتع إحداهما بالثراء الفاحش، متربعة في قمة هرم الثروة، بينما تعيش الأخرى قريباً من قاعدة هذا الهرم، وجميع حالات ارتفاع الأسعار والمطامع المالية المحركة لها، تسير نتائجها بالنسبة للطبقتين في تناسب عكسي، بحيث تزيد الطبقة الأعلى علواً، وتبقى الطبقة الأدنى في مكانها أو يزيد انحدارها، وثروة الأولى ومكاسبها يقابلها حاجة الثانية ومتاعبها، الأمر الذي يجعل استمرار مثل هذه الممارسات، وما ينجم عنها من إفرازات يترتب عليه عواقب وخيمة وتبعات ضارة لها انعكاساتها السلبية ومضارها الاجتماعية على الوطن والمواطنين سواء في المستقبل القريب أو البعيد. |
وبالطبع فإن المصلحة العامة في كل بلد تقتضي بأن تُباع السلع على من يشتريها بالحد الأدنى من السعر الذي تعارف عليه الناس واستقرت مشروعيته في أذهانهم، وهو السعر العادل الذي يجري من خلاله استقرار سعر الشيء تبعاً لأقل تكلفة له، وضمن حدود السعر المثالي للمنافسة، ويعني هذا أن البيع يتم بالسعر الذي يستفيد منه البائع ولا ضرر فيه على المشتري، بل يُوجد فيه أيضاً مجال للاستفادة بالنسبة للمشتري، وهذا السعر مهما وصل إليه من ارتفاع، فإنه يحتفظ بقول المنافسة، ويبقى ضمن الحدود المقبولة، طالما لم يخرج من هذه القاعدة، مع الأخذ في الحسبان تلك الآثار الناجحة عن تأرجح العرض والطلب وتقلبات السوق والتحسب لها من منطلق عدالة السعر ومنطقية المنافسة، والموازنة حيناً والمزاوجة أحياناً بين هذه المعطيات وبين الحد الذي يصل إليه الغلاء ودرجة ارتفاع السعر، والدولة إذا ما كان نهجها عادلاً فإنها تخلق الظروف الملائمة لوجود أمة عادلة، تسودها المنافسة المثالية التي تصنع بدورها السعر العادل بصورة آلية وشكل تلقائي، وهو سعر يتم بموجبه تطبيق القيمة العادلة والالتزام بالمشروعية الكاملة، بعيداً عن الممارسات الفاسدة والبيوع الباطلة، وشعار البائع والمشتري هو العفاف والتحصن بالعلم الشرعي، وقدوتهما ونهجهما في ذلك كما قيل شعراً: |
بنيت جنة عدن بالعفاف وقد |
تبني جهنم للناس الدنانير |
والعلم إن لم يطهّر قلب حامله |
من الهوى فهو تضليل وتزوير |
وتحقيقاً لهذه الغاية، يتعيَّن على التاجر أن يتحلى بالورع وأن يلتزم بالأمانة والصدق في جميع تعاملاته وشؤون تجارته، محترماً قيم وأعراف التبادل التجاري، ومراعياً أصول وقواعد عمليات البيع والشراء والأسس الشرعية التي تنطلق منها، وفي الوقت نفسه ينبغي أن يحافظ هذا التاجر على مصلحة المستهلك في إطار المصلحة العامة، وأن يجعل من ذلك هدفاً يحرص على تحقيقه، مهما طالت دونه مسافة الطريق وتنقّل النظر خلال هذه المسافة بين الجديد والعتيق، فلا الغلاء يستهويه، ولا الغش يقع فيه، بل يسلك مسلكاً صحيحاً يحقق له الربح المشروع ويضمن له النجاح، بفضل الانصياع لأوامر دينه واعتباره المصلحة العامة فوق كل المصالح الشخصية والاعتبارات الثانوية. |
والواقع أن في تعاليم الدين ومكارم الأخلاق والوطنية الصحيحة، ما يحصن البائع والمشتري ضد النزوات والتجاوزات، ويجعلهما يسيران على الطريق المستقيم الذي يكفل لهما صحة السلوك وسلامة المسلك، وبالتالي تطرح هذه الفضائل ثمارها في سبيل مواجهة تداعيات الغلاء وكبح مغرياته وإيصاد الباب في وجه المحاولات والممارسات التي تغذيه أو تدعو إليه، حيث إنه بفضل قوة العقيدة والروح الوطنية والضمائر الحية، تستطيع الأمة التكيُّف مع ظروفها ومسايرة المواقف التي تصادفها، بما يفضي بها إلى مقاييس المنافسة الشريفة وضوابط السعر العادل، وكل ما من شأنه تنظيم الاستهلاك واستقرار الأسعار، بعيداً عن الوقوع في أية ممارسة تحرض الناس على أن يثري بعضهم على حساب بعض، متخذين من حرية التجارة مدخلاً للولوج في متاهات تجارية تتشابه في طبيعتها مع طبيعة السوق السوداء. |
والغلاء الذي يحدث بسبب ندرة السلع لا يمكن مكافحته بصورة ناجعة إلا بزيادة العرض أو بتنظيم السوق بالإضافة إلى وضع الإستراتيجيات الاقتصادية وعمل الترتيبات الإجرائية التي تكفل حماية المستهلك ومكافحة الغش التجاري وتفعيل إجراءاتهما، أما ذلك الغلاء المفتعل الذي أوجده طمع التاجر وجشعه من جهة وضعف الوازع الديني ونقص الانتماء الوطني من جهة ثانية، فعلاوة على ما سبق لا بد من المراقبة والمحاسبة وتثقيف الناس وجعلهم في الصورة مع محاربة الفساد وإيجاد القدوة وضرب المثل من الأعلى إلى الأدنى، وبما أن الحق يتوقف عندما يبدأ الباطل فإن المحافظة على هذا الحق تتطلب من الدولة تكثيف المراقبة واستمرارية المتابعة للتأكد من مشروعية المنافسة وثبات الأسعار وعدالتها، وهو أمر لن يتحقق إلا بتصنيف حالات الفساد الاقتصادي والاستغلال التجاري ورصد محاولات الغش، وبالتالي وضع كل ذلك تحت المجهر الرقابي للتدخل كلما دعت الحاجة. |
وبما أن الوقاية خير ضمان لاستمرار النظام وقيام التنظيم، فإن الجهات ذات الاختصاص، وتلك التي لها مسؤولية رقابية وتنظيمية وأمنية، يتحتم عليها دائماً المبادرة للسيطرة على الأسعار ومنع العبث بها، وتعميم الوعي الوطني وصقل الحس الأمني، بهدف الحد من مطامع الثراء غير المشروع، والوقاية من التراجع إلى الوراء، وما يعنيه هذا التراجع من تضرر الطبقة الدنيا التي بدورها تجلب الأضرار إلى الوطن والأمة، ومن ثم تنسحب آثار ذلك على الجميع، متحوِّلاً ثراء الطبقة العليا وبالاً عليها وعلى غيرها، مما يتطلب من الكل إيثار مصلحة الوطن والأمة على المصالح الفردية الضيقة والالتفاف حول القيادة وتنفيذ أوامرها عن طريق اتباع الهدى وترك الهوى وفي ذلك غذاء الألباب وفصل الخطاب. |
|