نشأ الشيخ فهد منذ نعومة أظفاره عابداً ساجداً لله شغوفاً بتلاوة القرآن.. معلّقاً قلبه بالمساجد، نعم لقد روى لنا الثقاة من أهله وأقرانه أنه مذ كان عمره أثني عشر عاماً وهو يقوم الليل ولم يدع قيام الليل قط حتى لو كان مريضاً صلى على حسب حالته الصحية.
نشأ الشيخ في بيئة دينية، فهو من أُسرة ذات ورع وتقى، كما أنّ المجتمع من حوله مجتمع متديِّن محافظ، فبلدته الأفلاج كانت معروفة بالالتزام بأوامر الشرع واتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، كل تلك العوامل ساعدت على استقامة شخصية الشيخ فهد وصفاء نفسه وتعلُّقه بخالقه.
بدأ الشيخ تعليمه في الكتاتيب فختم القرآن كاملاً على يد أحد المشايخ في عصره، وكان أحد تلاميذ الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ حيث كان يحضر حلقات ودروس التوحيد والحديث والفقه. التحق - رحمه الله - بالعمل لدى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأفلاج وقد رُفض بادئ الأمر لصغر سنه، ومن ثم قُبل بتزكية من الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ حيث قال فيه: فهد رجل أهلٌ بأن يكون من رجال الحسبة الصالحين المصلحين، وفعلاً كان الشيخ فهد موظفاً مخلصاً في عمله متفانياً في أدائه، ومضت الأيام وعند اقتراب حلول شهر رمضان الكريم استأذن الشيخ فهد من عمله للحصول على إجازة لقضاء هذا الشهر الفضيل في رحاب الحرم المكي كعادته كل عام، ولكنه فوجئ برفض طلبه. عندها وجد الشيخ فهد أنّ دنياه سوف تشغله عن دينه فبادر بتقديم استقالته مع أنه كان في أمس الحاجة للوظيفة، ولكن زهده في الدنيا جعله يزيح عن دربه كل ما يشغله عن متعته الروحية وسعادته الحقيقية!! ويمّم وجهة شطر مكة المكرمة ونفسه تسبقه حباً وشوقاً لبيت الله الحرام غير آبه بالدنيا فكل ما على التراب.. ترابُ. وهنالك في رحاب البيت العتيق شمّر عن ساعديه للصيام والقيام والصدقة والإحسان وإعداد سفرة يومية لتفطير الصائمين يُعدها يومياً بنفسه ويقوم بخدمة الصائمين ووجهة يتهلّل فرحاً واستبشاراً، فهذه هي المتعة الروحية والسعادة الحقيقية بالنسبة له، ومع الأيام كانت سفرة الصائمين تكبر تدريجياً ويكثر مرتادوها حتى استعان بأولاده لمساعدته في خدمة الأعداد المتزايدة من الصائمين على سفرته، استمرت تلك السفرة أكثر من خمسين عاماً كل عام تكون متميزة عن العام الذي يسبقه حتى أصبح الشيخ معروفاً من الناس بسفرته المتميزة وإحسانه المستمر وطلاقة وجهة وطيب محياه، حتى أن كبار المشايخ القادمين للعمرة يفطرون على سفرته تطييباً لخاطره وإكراماً لشخصه ومحبة له في الله. كان الشيخ - رحمه الله - يستأجر شقة قريبة من الحرم ولا يمكث فيها إلا وقتاً وجيزاً للراحة ويقضي سحابة نهاره ومعظم ليله بين أروقة البيت الحرام .. طائفاً بالكعبة المشرفة وراكعاً ساجداً .. تالياً لكتاب الله متدبراً لمعانيه، دموعه تسبق تلاوته مع أنه حفظ القرآن كاملاً عن ظهر قلب إلا أنه كلما قرأه كأنه يقرأه لأول مرة من شدة تدبُّره وورعه وخشيته لربه. كنا نستشعر معه أن رمضان حقاً شهر القرآن.. فكان الشيخ يختم القرآن في شهر رمضان أكثر من اثنتي عشرة ختمة، مع أنه كان يجتهد ألاّ نعلم بذلك خشية الرياء. ولكني كنت أعلم من عدد مرات أخذه لكتيب ابن تيمية لختم القرآن العظيم. لقد كان هذا هو ديدنه طوال شهر رمضان، لقد كنت أشفق عليه حين أرى علامات الإعياء والجهد بادية على محياه وأقول له: أرفق بنفسك لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فيرد قائلاً: إنما أتعب نفسي من أجل راحتها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
اعذرني يا زوجي الحبيب.. أفشيتُ أسراراً وأعمالاً خفيّة كنت أنت حريصاً على كتمانها في حياتك.. ولكن بعد وفاتك أردت أن تكون مثالاً يحتذى به .. وتذكّرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم (اذكروا محاسن موتاكم)، كان - رحمه الله - رجلاً عصامياً بنى نفسه بنفسه فسافر من بلدته الأفلاج إلى الرياض لكسب الرزق لأنّ فرص العمل في بلدته آنذاك قليلة ومكث في الرياض قرابة ثلاث سنوات حتى جمع مبلغاً فتح به دكاناً صغيراً وكان حريصاً على أن يطور هذا الدكان للأفضل وعند اقتراب موسم البيع والشراء في شهر رمضان الكريم، كان يتوجّب عليه أن يبقى في الدكان حتى يحصد كسباً وفيراً، ولكنه مرة أخرى أعرض عن الدنيا وسافر لمكة المكرمة لقضاء شهر رمضان في أقدس مكان وأحب البقاع إلى الله، وبعد أن صلى العيد بالحرم المكي قفل راجعاً لبلدته الأفلاج واستأنف العمل في دكانه الآنف الذكر وبدأ يطور بضاعته شيئاً فشيئاً حتى أصبح اسمه لامعاً بالسوق ومتجره متميزاً عن جميع المحلات التجارية.
فلقد كان تاجراً أميناً صادقاً يرضى بالربح اليسير وينظر المعسر ويتجاوز عن الفقير، ويفرِّج على الأرملة والمطلقة واليتيم، فكان لا يرد مشترياً لقلة ماله أو لضيق ذات اليد فبارك الله له في تجارته فكثر ماله وزاد ربحه فسخّر ماله للدعوة والدعاة وبناء المساجد ومساعدة الأرامل وكفالة الأيتام ودعم الجمعيات الخيرية والمبادرة في مساعدة الشباب على الزواج وإعانة المرضى على تكاليف الدواء، ودعم كل عمل فيه خير للإسلام والمسلمين بلا كلل ولا ملل. كان - رحمه الله - يردِّد دائماً ما نقص مال من صدقة بل تزده .. بل تزده ..
كان ينفق ماله بطيب خاطر ورضاء نفس.. فو الله إنه يدفع الأموال لإخراج المعسرين من السجون وهو في سعادة غامرة.. كأنه هو من يكسب الأموال ليس من ينفقها، لقد بلغ من محبة الشيخ للخير أنه حينما كان في الولايات المتحدة الأمريكية لتلقِّي العلاج أن قطع فترة علاجه وتجشّم عناء السفر وإنفاق الأموال من أجل صيام شهر رمضان في بيت الله الحرام، نعم لقد كان قلب الشيخ معلقاً بالحرمين مكة والمدينة وكان هنالك حلم يراوده بأن يقضي بقية حياته بأرض طيبة الطيبة بجوار نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم. فكان قراره بمغادرة بلدته الأفلاج والاستقرار بالمدينة النبوية.
وهنالك وجد بغيته ومتعة نفسه فكان يقضي جلّ نهاره في الروضة الشريفة.. مصلياً تالياً لكتاب الله مشاركاً في حلقات الذِّكر بالمسجد النبوي وعند إقامة الصلاة كان دائماً في الصف الأول.. كتب الله له سكنى المدينة عشرة أعوام متتالية فألف أهلها وألفوه وتعرَّف على كوكبة من العلماء الأفاضل فكان منهم ملء السمع والبصر وهم منه كذلك، فالأرواح جنود مجنّدة .. رحمك الله فقد تعلَّمنا منك الكثير الكثير.. رغم أنّ شخصيتك ذات سمت ووقار إلا أنك كنت جمّ التواضع سهل الجانب تحترم الكبير وترحم الصغير وتعلِّم الجاهل وتوجِّه السفيه وتقوِّم المعوج وتعين ذا الحاجة وتسعى لإصلاح ذات البين .. رحمك الله فقد كنت نقي السريرة سليم القلب. افتقدناك كثيراً كثيراً وستفتقدك أروقة الحرم المكي وستفتقد خطواتك طرقات الحرم المكي التي طالما سعت قدماك مراراً وتكراراً إليه وستفتقدك الروضة الشريفة وحلقات الذِّكر بالحرم النبوي .. وسيفتقدك مصحفك الذي طالما تصفّحته يداك الطاهرتان ليلاً ونهاراً وستفتقدك زوايا منزلك وأركانه خاصة منتصف الليل حين يجلجل صوتك بتلاوتك العذبة النديّة وأنت تحيي الليل كله بالصلاة.
غفر الله لك ورحمك ورفع درجتك في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والصالحين والشهداء.. آمين آمين.