إن أشد ما تكون المصيبة أجلُّ ما يكون المصاب به خطراً، وأبرح ما تكون الرزية أنفسُ ما يكون الفائت قدْراً، وأفدح ما يكون ألم الفجيعة ألطف ما يكون المفجوع موقعاً، وأنكر ما يكون جزع النائبة أكرم ما يكون الهالك حسباً، وأوجع ما تكون الحادثة أنفع ما يكون الموجود مفقوداً.
وقد فُجعنا بوفاة الوالد الكريم محمد بن عبدالعزيز بن علي بن إبراهيم القصير، وذلك يوم الأحد 24 صفر 1429هـ قبيل الظهر منه، وحينما جاءني المخبر بخبره لم أزل واجم القلب، ذابل النفس، ذاهل العقل، عازب اللب، وأيم الله إنه لأمر يعلق القلوب ويُذهل الألباب ويشغل عن طارقات القوارع، ولست في تأبين ولد لوالده، فالأمر أجل من ذلك، حيث إن الحديث إنما هو عن جبل هفا، وطود سرى، وبحر سجى، ونهار دجى، قد جمع الله له أطراف الخلق والدين والكرم، وقد شهد بذلك القاصي والداني، وإن فراقه قد أوصل إلى قلوبنا كلماً لا يندمل، وثلماً لا يلتئم، وصدعاً لا ينشعب، وقلقاً لا يوصف، ومضضاً لا ينعت وحُرقة لا تداوى، ولعلي في هذه الأسطر أذكر شيئاً مما عرفته عنه وفاء له وأداء لقطرة من بحر حقه - رحمه الله-، فهو من عرفت اسمه من مواليد عام 1333هـ المعروفة بسنة جراب، كما أخبرني هو بذلك - رحمه الله تعالى -، وهو من أسرة القصير إحدى أسر الحمادا المعروفة، وهم أبناء الحميد بن حمد من آل حمد أهل التويم الذين تفرقوا في كل مناطق المملكة العربية السعودية، وفي الخارج.
وقد نشأ - رحمه الله- نشأة بِر وخير وصلاح وعفاف في كنف والده زاهد القصيم عبدالعزيز العلي - رحمه الله - وتعلم مبادئ القراءة والكتابة وقرأ القرآن على ابن سليم وأتقنه بصوت شجي ندي، وقد تولى إمرة الشقة خلفاً لوالده الذي تنازل عنها طوعاً لانشغاله بالعبادة ولزوم المسجد، وكان ذلك في حدود عام 1359هـ وكانت الإمرة متسلسلة في أجداده وأعمامه وهو الأمير الحادي عشر لها، وقد أمضى أكثر من ثلاثة وخمسين عاماً أميراً للشقة!! وتقاعد عام 1413هـ وكان طيلة هذه الفترة محل التقدير والاحترام من قبل المسؤولين والأفراد على حد سواء، وكان - رحمه الله -هو المرجع في أملاك وحدود وتقاسيم المنطقة، والعجب في ذلك أنه لم يحدث أي اعتراض على أي حد قرره من قبل الخصوم أو المحاكم أو الإمارات طيلة فترة عمله، بل كان كلٌّ يصدر عن رضا وقناعة بقوله، وله اليد الطولى في إصلاح ذات البين، وكان - رحمه الله - يعمل طوال ساعات يومه، فلم يحدث أن امتنع عن أي عمل أنيط به أو لجنة عهد بها إليه في أي ساعة من ليل أو نهار، بل كان ينهي أمر من قصده ولو كان في الإجازات الرسمية.
وكان مما تميز به خلقه الحسن وجانبه اللين والبسمة التي لا تفارق محياه والكرم الذي تحلَّى به وملك مجامعه، وصدق اللسان الذي صار سمة له، وهذا محل إجماع لا ينازع فيه منازع حتى صار هو المرجع لأسر الحمادا قاطبة - على كثرتهم - ولأسرته خاصة، فهو العميد والكبير الذي أذعن له الجميع حباً ورضاً وتوقيراً، فلم يرفع صوته على أحد أو يمنع جاهه عن طالب أو يغلق بابه عن طارق، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن من أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً) فأسأل الله ألا يحرمه من ذلك.
وقد قال بعض الفضلاء: عجبت لأبي إبراهيم لم يدخل عليه داخل إلا وخرج منه وهو عنه راض ومجل!!
وكان - رحمه الله - محافظاً على صلاة الليل مداوماً على صيام الاثنين والخميس والأيام البيض وعشر من ذي الحجة وغيرها، وكان يتابع بين الحج والعمرة، وقد حج أول حجة له على قدميه ذهاباً وإياباً، وكان تالياً للقرآن بل كان جل وقته فيه حتى لا تكاد تراه إلا قارئاً أو ذاكراً.
وجماع ذلك أن الله قد وهبه من أنواع العبادات وصنوف الأخلاق ما هو من السهل الممتنع، ويخيل للرائي إليه، ولكأنما ركائب العبادة والورع قد أناخت ببابه وأطرقت بأعناقها إليه، وكنوز الأخلاق والبر والكرم قد سلمت مفاتحها له فأخذ منها وأوعب توفيقا من الله وتسديداً، والله يرزق من يشاء بغير حساب، فهو إن دخل على ولاة الأمر فهو المقدم، وإن جالس أهل العلم فهو الموثوق، وإن غشاه العامة فهو المحبوب المألوف، أما أضايفه فقد غمرهم ببشره ومسامرته وفرحه بهم ودعائه لهم ولذويهم حتى صار سجية له يقصده لأجلها القاصدون.
وواللهِ إني لا أذكر أني قد رأيته في موقف لم أحب أن أراه فيه إطلاقاً، بل إنه قد بلغ شأو أبيه في الخير ولزوم الطاعة حتى إن بعض الأفاضل قد فاضل بينهما إلا أن لكل زمان رجالاً وفي كل خير.
وكان مما عرف به - رحمه الله - طرفه المليحة التي لا تخرجه عن حد الصدق على الإطلاق، وكان فيها من الذكاء والتورية الشيء الكثير، وقد مرض - رحمه الله - في آخر سنتين من حياته فكان لا يعرف إلا الصلاة والقرآن والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد نسي الدنيا بأجمعها حتى كأنه لم تطأ له قدم فيها، وبعد نيفٍ وتسعين عاماً من الخير والنفع والصلاح والعبادة ترجل الفارس عن هذه الدنيا في يوم مشهود حافل، وامتطى جواد الثناء والدعاء، فأي طود تزعزع وأي جبل تضعضع، ونجم أفل، وخير رحل، وبلاء نزل، ومجد طُمست أعلامه، وجود أظلمت أيامه، وبر توعَّرت سبيله، وفضل عفت طلوله، وباب من الخير انغلق، ومسلك للبر انطبق، ومنهج للجود طمس، وطريق للمجد درس، ومورد للفضل نضب، وموئل للضعيف تداعت قوائمه، وأنس للأحرار صار وحشة، وإني كلما نظرت إلى يدي بادرتهما بالسؤال عن أي نفس دفنتما وأي جسد طاهر بإذن الله لحدتما؟ وهل ما قمتما به من تلحيده وصف اللبنات عليه كان خلسة عن عاطفة القلب وقفزاً على جدار المحبة أم هو الامتثال للأمر والمتابعة للخبر؟ اللهم إنا نسألك التسليم لحكمك والرضا بقدرك، وإنا لا نقول ألا إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا والدي لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
وقد خلف - رحمه الله - أولاداً صالحين - بإذن الله- وهم: إبراهيم ابنه الأكبر ثم عبدالرحمن وعلي وعبدالعزيز، وهم أهل لاقتفاء أثره والسير على منهجه بصفاء قلب وخلق حسن وتحت كلمة واحدة، وباب بره لم يغلق إلى الآن؛ فأبواب الخير مشرعة، فأعانهم الله ووفقهم لبره بعد وفاته ورعاية حقه، كما قد خلَّف - رحمه الله - محبين كثيرين امتلأت حشودهم للصلاة عليه وتوديعه على ضيق الوقت الذي تم فيه التخابر.
وإني لا أزال أعزي نفسي ووالديَّ الكريمين وزوجته الكريمة - والدة الجميع - والأعمام والعمات ومحبيه بما منحه الله من الصلاح والكرم والمداومة على العبادة تلو العبادة، فهنيئاً له ما منحه الله ووفقه له من الجد والاجتهاد والثبات وحسن الخاتمة، ولا نزكي على الله أحداً.
وإنا نحمد الله على ما استودع ومنح، ونسلم الأمر فيما ارتجع واسترد، فإن الموت غاية الأحياء ونهاية الأشياء، قد طوقته الأعناق وأحاط بالأمم والرفاق، فكل نفس ذائقة الموت وكل حي غايته الفناء والفوت، فأوصي نفسي وأهلي ومحبي الوالد بالصبر والاحتساب، فإن أبعد الناس من الثواب حظاً من أجره مصابه، وأشدهم تمسكاً باكتئابه من عزب عنه الصبر في الرزية، ومن قل صبره حبط أجره، ومن ضل عنه عزاؤه يطل عليه جزاؤه، صرف الله عنه وعن المسلمين فوادح المحن وفواتح الفتن وجعلنا ممن يسلم لأمره تسليم الراضي به العالم بعدله في حكومته وإقساطه في قضيته.
ورحمك الله أبا إبراهيم.. فلا تزال العين عبرى والنفس ولهى والكبد حرَّى والأحشاء مضطرمة. فاللهم اغفر له وارحم مصرعه وبرِّد مضجعه، وأكرم منقلبه ومأواه وتجاوز عن سيئاته وتلقه بعفو وغفران ورحمة ورضوان، وخصه بالصفح الجميل والعفو الجليل والرضوان المأمول والغفران المرتجى والرأفة والزلفى، وارحمه رحمة تنزله منازل الأبرار، وارض عنه مرضاة تحله مع المصطفين الأخيار، وتورثه النعيم المقيم والفوز العظيم والأجر الكريم وأسعده بمنقلبه وأكرمه بمجاورته.
az@lawgroup.com.sa