مرت الجامعات السعودية بمراحل انتقالية عديدة، تغيرت فيها بعض البنود في لوائحها الداخلية، مثلما تبدلت محاور كثيرة في صلاحيات هياكلها الإدارية والتنفيذية والإشرافية، شأنها في هذا شأن أي مؤسسة تخضع لمسلَّمات
التطوير والتغيير ضمن حزم الإمداد التي ترد مع الخبرات الجديدة والتفاعلات الضمنية مع حركية التوجهات ومستحدثات المعرفة... وشمل هذا استحداث برامج دراسات عليا بدأت بمرحلة ثم توسعت لما هو أعلى... فجميع الجامعات السعودية الكبرى الآن تقدم إلى جانب برامجها الجامعية برامج الدراسات العليا... والدارس الذي ينهي درجة البكالوريوس أو الإجازات العلمية في تخصص ما فيها أصبح من اليسير له حين يحقق شروط القبول أن يحصل فيها على الماجستير والدكتوراه، وهما الإجازتان الممثلتان للأوسع والأعمق من الخبرات في مجاليهما...
والدراسة التي كانت تعتمد على أستاذ مختص في مجال علم محدد بات من الضرورة أن يكون مؤهلاً تربوياً ليواجه عمليات التدريس الجامعي بأسلوب أكثر إتقانا وأشمل مهارات...
إذ بعد أن كان للجامعات دور أكبر لمحو أميات أشمل بات عليها أن تقفز لأبعد من مفاهيم حرفية مسميات الدرجات العلمية التي تمنحها في وثائق ورقية مكتوبة... فالعناصر البشرية هم محور أهداف سياسات التعليم سواء سياسة تعليم الدولة الأعم أو سياسة تعليم المؤسسات التعليمية حسب تدرج مراحلها ومستوياتها مما قبل الابتدائية إلى الدراسات العليا، ولا ينبغي أن تكون جميع المؤسسات بكامل عددها وعتادها تتضافر على أن يحصل الفرد على وثيقة لا تتناسب ونوعية وكمية وكيفية محصلاته، وبالتالي تكون الجامعات شبيهة بالمدارس...
وتطلب ذلك ولا يزال يتطلب الاهتمام بالكيف لا بالكم في مستوى ونوعية أعضاء هيئات التدريس، وتقدير الكفاءات والعناية بذوي المهارات لا بمن يتقلد المسميات ويزين بأوسمتها صدره...
كما تطلب ذلك تمحيص الخبرات وانتقاء الأمثل الأنفع ...
ومع كل هذا التبدل في نوعية التعليم الجامعي والعالي الذي امتد ليشمل مد الجسور مع الآخر الأجدى فقد راودتني صورتان لهذا الامتداد عندما كان ابتداء... ذلك لأن الجامعات السعودية بدأت مسيرتها مكونة تأريخها ومسجلة بصماتها على أيدي إخوة من غير المواطنين، حتى استوى لها نفر منهم، قاموا ولا يزالون في ازدياد يقومون بمهامها الإدارية والتنفيذية والتعليمية والبحثية...
لكن الحقيقة تؤكد أن التعليم الذي قام على الاستفادة من خبرات الآخر تأثر بشكل ما بمنهجيتهم الإدارية والأدائية والتدريسية بل البحثية، وامتد لتضخيم دلالات الدرجات العلمية... ومد ظلاله ليكون للأستاذ الجامعي برجه الذي يمنحه من الحصانات ما يشبعه فلا تهزه ريح ولا تحركه مشاعر...
ولم تتبدل الصورة إلا حين امتدت الجسور لأبعد ولأكثر المسارات تنوعاً، حين ذهب ومن ثم عاد أساتذتها وقد تطعمت خبراتهم بخبرات من نوع آخر...
لذلك تصارعت في الجامعات السعودية أنماط مختلفة من مدارس فكرية وأسلوبية لأعضائها الأكاديميين... فمنهم من يتبع المدرسة العربية التي تخرج أساتذة صارمين حادي الألسنة غلاظاً لا مجال للطالب أن يصل إليهم في يسر،
يحملون ألقابهم فوق رؤوسهم... ومنهم من يتبع المدرسة الأوروبية ومن ثم الأمريكية التي لم تكن تحقق مردوداً مُجدياً في ضوء اختلاف إمكانات الجامعات من جهة ومؤثرات القيم السلوكية التي نشأ عليها كلاهما الأستاذ وطالبه...
وتفاوتت المؤثرات في تراكيب عجينة كل فرد منهم، حتى بات الطلاب يتلقون كل درس بأسلوب يختلف عن الآخر؛ إذ لم تكن الأنظمة ولا التعليمات وحدها مناط التنفيذ بل شخصية الأستاذ وتحديداً في منهج التعامل مع الطلاب... وفي ضوء حرية الأستاذ الجامعي المطلقة... وخير مثال على هذا أسلوب التعامل مع حضور أو غياب الطالب داخل الحيز الزمني للمحاضرة... ثم في التعامل مع الاختبارات الفصلية ومدى دقة محصلات الطلاب فيها... وانطلاقاً مع المنهجية الفكرية للأستاذ ومن ثم نوعية الخبرات العلمية المعرفية التي يقدمها للطلاب... حتى أصبحت محصلات الجامعات عند دراسات تنشأ تقارن بين أعداد الذين تخرجوا فيها منذ نشأتها حتى اليوم مقارنة مع مدى استفادة الدارسين فيها بعلم باق وخبرة فاعلة وتمكن مهارات ستكون النتائج ألا فروق تذكر بين مَنْ تعلم في المدارس أو بلغ مدرجات الجامعات...
وخلال هذه المراحل، وضمن دولبة العمل وطاحونة اليوم ومحصلات اللحظة والختام في كل تجربة تمر بأعضاء الجامعات في مداراتهم التنفيذية الإدارية والتعليمية والإشرافية والفنية وفي الوسائل والمنشآت والاتصالات، ومضات خضراء... ومؤشرات بيضاء... ولمحات من شعل... غير أنها ليست الطاغية...
يبدو أن الراهن هو انعطافة تفتحت لها عيون... نأمل ألا تصاب بغبار دواليبها هذه العيون ومن ثم تعود للمضي في اعتياد ولا يكون الناتج إلا مؤشراً في الطريق، يسجل فيه كما لوحة الطرق الطويلة عدد السنين وعدد الأعضاء وعدد المباني ومساحات الأرض...