الكتاب: The Cure Within
المؤلف: Anne Harrington
الناشر: Norton, W. W. الجزيرة Company
أشار تقرير طبي نشر مؤخرا بمجلة (أرشيف الطب النفسي العام)، وهي مجلة شهرية تصدر عن الجمعية الطبية الأمريكية، إلى أن الأمريكيين الذين شاهدوا انهيار برجي مركز التجارة العالمي على شاشات التلفاز، وانتابهم شعور بالقلق بسبب الحادث، تعرضوا لمعدلات عالية من أنواع مختلفة من أمراض القلب في السنوات الثلاث التي تلت الحادث. وشهدت العقود القليلة الماضية سيلا من الأبحاث المماثلة التي تشير إلى علاقة ما بين صحة الجسم والحالة العقلية، وكلما ووجهت الأبحاث الصادرة في هذا المجال بالتفنيد والاعتراض حلت محلها أبحاث أخرى تؤكد نفس النتائج. ويبدو أن الأشخاص العاديين أكثر اقتناعا من الأطباء بمقولة إن الأفكار يمكنها التحكم في خبراتنا، حيث إن هذه المقولة عميقة الجذور في ذاكرة العديد من الشعوب، ومن ذلك ما تشير إليه بعض أغاني الخمسينيات في أمريكا من أن الفتاة التي تفشل في الحصول على فرصة الزواج تصاب بحالات متكررة من الزكام.
ما العلاقة الحقيقية بين العقل والجسم إذن؟ هل هي علاقة قوية؟ وكيف تعمل؟
في هذا الكتاب الذي أصدرته آن هارينجتون، رئيسة قسم تاريخ العلوم بجامعة هارفارد، بعنوان (الشفاء من الداخل) تتتبع المؤلفة العلاقة بين العقل والجسم عبر القرون، وتعرض مظاهرها المختلفة. وتقول المؤلفة إن مبحث العلاقة بين العقل والجسم عبارة عن "خليط" من المعتقدات والمداخل المتناقضة (التي يشد كل منها في اتجاه). وتشير في كتابها هذه إلى العديد من الحالات التي حقق فيها تطبيق مبدأ العلاقة بين الجسم والعقل بعض النجاح، على الرغم من أن النتيجة التي وصلت إليها لا تزيد على قولها (دعنا نتمنى أن تزدهر آلاف الطرق العلاجية) بجانب الطب التقليدي. وهي تدلل على أهمية هذه الخلاصة بأن الطب الحديث يعتبر المرض ظاهرة مادية بحتة، وأنه لا يعني أكثر من كونه حالة جسمية طبيعية، غير أن المرضى، حسبما تقول، يبحثون عن معاني وبدائل أخرى. إنهم يرون قصصا في حالاتهم المرضية، ويشعرون أن فهم هذه القصص من شأنها مساعدة معالجيهم على التوصل إلى الفهم الصحيح لحالاتهم. فعندما تفشل اجسامهم في أداء مهامها، ويقعون فريسة المرض، يريد الناس أجوبة على العديد من التساؤلات، منها مثلا: لماذا أنا في هذه الحالة؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ وماذا بعد؟
هذه الأسئلة وغيرها يتطلب التعامل معها في اعتقاد المؤلفة بنظرة أشمل، نظرة ترى في المرض ما هو أعمق من مجرد المظاهر المرضية التي تصيب الجسم، كما ترى في العلاج ما هو أبعد من مجرد الحبوب والحقن. فالعقل له دوره أيضا، ويدخل في ذلك كيف يفكر الشخص، وكيف يشعر، وما نوع الشخصية التي يتصف بها المريض.
وفي ثنايا الكتاب يتعرض القارئ لشخصيات مثل الطبيب فرانز أنتون مزمر، الذي عاش في القرن الثامن عشر، ويتعرف على طريقته في العلاج بالتنويم المغناطيسي، التي سميت طريقة مزمر؛ كما يلتقي برائد التحليل النفسي سيجموند فرويد، صاحب مقولة إن المرض ليس حدثا بيولوجيا وحسب، بل ينطوي أيضاً على بعد ذاتي غني بالمعاني (الخفية عادة). وفي منتصف القرن الثامن عشر كتب القس نورمان فنسنت بيل في نيويورك كتابا مهما بعنوان (قوة التفكير الإيجابي) يحث فيه الأمريكيين العاديين على تطبيق مبدأ العلاج العقلي الجسمي على أنفسهم من أجل اكتساب القدرة على مواجهة الأمراض. ويشرح الكاتب نورمان كوزين في كتابه تشريح المرض (كما يراه المريض) كيف أنه تمكن من التخلص من الكثير من الأمراض الخطيرة بالضحك، مستعينا في ذلك أحيانا بمشاهدة الأعمال الكوميدية. وتبنى طبيب القلب بجامعة هارفارد هيربرت بنسون العلاج بالتأمل في طريقته العلاجية التي عرفت باسم (العلاج بالاسترخاء).
وفي بحثها هذا تتناول هارينجتون المبدأ المعروف باسم (تأثير الدواء الزائف)، أي قدرة العقاقير الوهمية، أو ربما الجراحة الوهمية كذلك، على تحقيق الشفاء، وهو المبدأ الذي طالما احتار فيه الباحثون. وتتساءل هارينجتون عما إذا كان في مقدور الجسم التجاوب مع العلماء والأطباء (أي الأشخاص الذين يرى الجسم أنهم يتحدثون معه بسلطة العلم) والاستماع إليهم؟ ومن ثم تقول إننا في حاجة إلى التفكير في المضامين الواسعة لذلك.
ومن النظريات المهمة في مجال العلاج العقلي أن العواطف تؤدي دوراً مهماً في استجابة الجسم للعلاج. ففي عام 2000 أشار روبرت بوتنام في بحث له إلى أن الانتماء إلى جماعة ما يسهم كثيراً في مساعدة الشخص على التمتع بحياة صحية جيدة. فقد ثبت من الناحية الإحصائية أن تأثير الشعور بالانتماء في تحسين صحة الفرد يعادل تأثير الإقلاع عن التدخين. كذلك أوضحت الدراسات التي أجريت في بريطانيا على الأطفال الذين عاشوا منفصلين عن آبائهم أثناء الحرب، وتلك التي أجريت في ألمانيا خلال السنوات التي تلت الحرب، وفي رومانيا الشيوعية على الأطفال اليتامى، أن الأطفال الذين يتلقون رعاية كافية من حيث المأكل والملبس والسكن والرعاية الطبية، ولكن دون وجود الأم أو الحاضنة التي توفر دفء الرعاية العاطفية، يقعون فريسة المرض ويموتون بمعدلات أكبر من الأطفال الذين يتلقون رعاية جسمانية أقل، ولكن يتمتعون بالعناية العاطفية، سواء من الأم أو غيرها. وحتى في دور الحضانة داخل سجون النساء في الولايات المتحدة، التي تتصف بمستوى من النظافة يقل كثيرا عن مستوى النظافة في دور الحضانة العادية، ثبت للباحثين أن توفير عاطفة الأمومة أفضل من تطبيق إجراءات النظافة في حماية الطفل ضد العدوى.
وفي عصرنا الحالي أسهم تطبيق قوة العقل البشري في تطوير طرق العلاج، على الرغم من أن الاعتماد عليها وسيلة للعلاج لا يزال في طور البحث. وتبدو الكاتبة مقتنعة بأن إجراء المزيد من الأبحاث حول هذا الموضوع، أو حتى استغلال العلاقة الوثيقة بين الجسم والعقل في العلاج، مسألة مهمة طالما كان الوصول إلى الشفاء هو الهدف الأول لكل الوسائل العلاجية.