هذه قصة لقاء طريف: إنه اجتماع بين أكبر مفكر في عصره وهو ابن خلدون، وأكبر فاتح في زمنه، وهو تيمورلنك.
ولو كان تيمورلنك فاتحاً فحسب لما كان في الأمر غرابة، ولكنه كان بالإضافة إلى ذلك عنوان الهمجية في حروبه، لما دمر ونهب وسلب من أموال وأزهق من أرواح. في سنة 1400م وردت إلى مصر الأخبار بأن تيمورلنك قد استولى على مدينة حلب فقتل من أهلها من قتل، ودمر من بنيانها ما دمر، وألقى الرعب في نفوس الذين لم يصلهم السيف، واتجه نحو دمشق، وعندها هرع السلطان فرج سلطان المماليك حاكمي ديار الشام ومصر، إلى دمشق للدفاع عنها..
واصطحب معه من القضاة والفقهاء عدداً كبيراً، وكان ابن خلدون قد جاء مصر قبل ذلك بنحو خمس عشرة سنة، وعمل فيها مدرساً وقاضياً، غير أنه في ذلك الوقت كان معزولاً عن القضاء، ومع ذلك فقد أصر السلطان على أن يسير ابن خلدون معه، إلى دمشق، ففعل تحت ضغط صاحب الأمر.ولما وصلت الحملة إلى دمشق، نزل ابن خلدون مع جماعة العلماء والفقهاء في المدرسة العادلية، وقد اشتبك جند المماليك مع جيش تيمورلنك غير مرة، وبدأت بعدها، مفاوضات الصلح بين الجيشين، ولكن السلطان لم يلبث أن غادر دمشق إذ بلغه خبر مؤامرة تحاك ضده في مصر، مخلفاً المدينة تحت رحمة تيمورلنك.
وحار أهل دمشق فيما يفعلونه، فالعلماء والقضاة أرادوا تسليم المدينة إذ لا قبل لهم بالوقوف أمام تيمورلنك وجيشه، أما نائب القلعة فلم يقبل بذلك، وخرج أخيراً القاضي الحنبلي ومعه جماعة من الفقهاء إلى تيمورلنك فحصلوا منه على الأمان، على أن تسلم المدينة ويسمح لنائبه بدخولها.والظاهر أن بعض من في دمشق عاد فضلع مع الوالي، فحدث هرج في المدينة حول تسليمها، وهنا نترك لابن خلدون التحدث عما حدث بعد ذلك.
فوصفه واضح، وروايته صريحة، قال: (وبلغني الخبر من جوف الليل، فخشيت البادرة على نفسي، وبكرت سحراً إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت الخروج أو التدلي من السور، فأبوا علي أولاً، ثم أصخوا لي، ودلوني من السور، فوجدت بطانة تيمور عند الباب.. فحييتهم وحيوني، وقدموا لي مركوباً، أوصلني إليه، فلما وقفت بالباب خرج الاذن فاستدعاني، ودخلت عليه بخيمة جلوسه متكئاً على مرفقه، فلما دخلت عليه فاتحته بالسلام وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه ومد يده إلي فقبلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت، ثم استدعى من بطانته الفقيه عبدالجبار بن النعمان، من فقهاء الحنفية بخوارزم، فأقعده يترجم بيننا.
وبينما ابن خلدون عند تيمورلنك جاء الخبر بفتح المدينة، وخروج القضاة على غير ما زعموا من الطاعة للفاتح، وكان تيمورلنك معاباً بداء ركبته يمنعه من المشي مسافة طويلة، فرفع إلى فرسه، ومضى نحو دمشق، وجلس عند باب الجابية حيث دخل إليه القضاة وأعيان البلد، فأقر كلاً منهم في منصبه وأنعم عليهم، بينما استعصى نائب القلعة فيها، فسلط تيمورلنك عليها المجانيق والنفوط، وضاق الحصار بأهلها فطلبوا الأمان فأمنهم، غير أنه أخلف وعده فخرب القلع وطمس معالمها واحتجز السكان.ويصف ابن خلدون ما فعله تيمورلنك بالمدينة وأهلها فيقول: ثم أطلق أيدي النهابة على بيوت المدينة، فاستوعبوا أناسيها وأمتعتها وأضرموا النار فيما بقي من سقط الأقمشة، فاتصلت النار بحيطان الدور المدعمة بالخشب، فلم تزل تتوقد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه، فسال رصاصه وتهدمت سقفه وحوائطه، وكان أمراً بالغاً مبالغة في الشناعة والقبح.