مما لا يختلف عليه اثنان أن الأمور لا تسير دائماً حسب رغبة الإنسان وطبقاً لما يريد، بل يحصل له الفرح والترح، والسار والضار، والإيسار والإعسار، فإذا ما تعامل مع هذه الأمور بعقلانية ووضعها في نصابها وحسب لها حسابها، راضياً بقضاء الله، هانت عليه المصاعب واطمأنت نفسه، ولم يحمله غيظه على الامتعاض والتبرم والنظر إلى الدنيا من زاوية مظلمة، وإنما يجد في الأمر متسعاً لهدوء البال وراحة الضمير بفضل التسامح والواقعية.وإذا كان هذا حال الدنيا، فإن حالها من حال أهلها، الأمر الذي يتطلب من الإنسان العاقل أن ينظر إلى الناس من هذا المنظور، متحلياً بفضيلة التسامح عند التعامل والمعاملة على النحو الذي يجعله يقبل الناس على ما هم عليه، مُغلباً الخير على الشر، ومرجحاً كفة المحاسن على المساوئ، شاكراً المحسن وعافياً عن المسيء، وذلك في الإطار الذي يجمع بين مزايا الفطنة وحسن التغافل، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أعقل الناس أعذرهم للناس، ولله در القائل: |
فأقبل من الناس ما تيسرْ |
ودع من الناس ما تعسرْ |
فإنما الناس من زجاج |
إن لم ترفق به تكسرْ |
والتسامح يمثل فضيلة اجتماعية، ترفع من شأن الذي يتصف بها، وتمهد الطريق أمامه ليعظم أمره، ويحمد بين الناس ذكره، جامعاً بين الشدة في غير عنف واللين في غير ضعف، وجاعلاً من لذة العفو، وما تجلبه من سعادة وصفاء، بديلاً عن نشوة التشفي، وما يتبعها من ندم وشقاء.والتسامح في معناه الخاص ومفهومه العام، يعود على المتسامح بالمغانم، ويدرأ عنه المغارم من خلال ما يفعله من بذل الندى وكف الأذى، وما يبديه من الحرص على كسب الممادح ونفي المذام، متجاوزاً الهفوات، ومقيلاً العثرات، مع التوفيق بين القدرة والعفو واللين والشدة، وبالشكل الذي يجلب له الخير ويحجب عنه الشر.وتأسيساً على ذلك فإن فضيلة التسامح تنعكس على المتسامح زينة في السلوك وسماحة على المحيا، وليناً في الكلمة، وتوسطاً في جميع الأمور، متصفاً بالكياسة والرفق ودماثة الخلق في التعامل مع الآخرين، بما يجعل من العسر يسراً والقبض بسطاً، بعيداً عن كل ما يؤدي إلى سورة الغضب والتشفي والانتقام، وما يعقب ذلك من ذم الندم وذل الاعتذار.والإنسان تظهر قوته بالسيطرة على نفسه إذا غضب أو نازع غيره مخاصماً، مما يستدعي منه كتمان غيظه وإطفاء غضبه، بما يستطيع عليه من حلم وصبر، كما أن البادئ بالأذى يكون في منزلة أدنى من خصمه، ومقابلة الإساءة بمثلها تضع المنتقم في مرتبة البادئ، والصفح يضع المتسامح في منزلة أعلى ويكسبه محمدة، وينفي عنه مذمة، ولذة التشفي التي يشعر بها المنتقم وقتها قصير في حين أن السرور الذي يحس به العافي عند العفو يستمر زمناً طويلاً، والتسامح من شيم الكرام، وبقدر ما يُصلح من الكريم، فإنه يُفسد من اللئيم البادئ بالظلم، وقد قيل: من عفا ساد ومن حلم عظم. وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: من يغفر يغفر الله له، ومن يعف يعف الله عنه. وكما قال الشاعر: |
إذا كنت لا أعفو عن الذنب من أخٍ |
وقلت أكافيه فأين التفاضل |
ولكني أغضي جفوني على القذى |
وأصفح عما رابني وأجامل |
متى أقطع الأخوان في كل عثرةٍ |
بقيت وحيدا ليس لي من أواصل |
وقد أمر الله في كتابه الكريم بالتسامح ومعاملة الناس بالحسنى، واحتمال الأذى والصبر على الأعداء وبين ما يترتب على ذلك من الفضل في العاجل والآجل، حيث قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظ عَظِيمٍ}والإنسان قد يتعرض للظلم فيكون ثائر النفس، غضوباً حاقداً على من ظلمه، ولكنه يصبر كارهاً، ويصفح قادراً، بحيث يأمره إيمانه بالعرف والعفو عن الجاهلين، وقدوته في ذلك رسول الله ژ، عندما كذبه قومه، وردوا عليه قوله، ورموه بالحجارة، وأغروا به السفهاء، فما كان منه إلا أن قال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). |
ويوم فتح مكة عندما نصر الله رسوله ورفع راية دينه وأعلى كلمته، وهزم الأعداء قام الرسول ژ فيهم خطيباً، ذاهباً في التسامح مذهباً يليق بمقامه على النحو الذي تجسدت فيه مزية الحلم في أعلى درجاتها، وتجلت فيه فضيلة العفو في أفضل مستوياتها، حيث قال لهم: (ما تظنون أني صانع بكم؟ فقال الذين عرفوا حلمه وصبره وعفوه عمّن ظلمه: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا أقول لكم إلا كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين). وقد أحسن القائل: |
وَفَتَحْتَ مكة والقلوب بحكمةٍ |
يحنو لها السيف الصقيل ويسجد |
وأتاك قومك خائفين وكلهم |
يخشون بطشك حُرُّهم والأعبد |
فصفحت عنهم والسماحة والندى |
والجود والإحسان عندك سرْمد |
والواقع أن التسامح يُسهِّل لأطرافه مداخل السعادة، كما تتجلى في المتسامح مخايل السيادة، فالتسامح والمتسامح عنه كل منهما يشعر بالسعادة والارتياح، ويغمره السرور لقاء العفو الحاصل، وما له من مردود مثمر على الطرفين، وفي الوقت نفسه فإن المتسامح يجد في هذا العفو ما يرفع قدره، ويعطِّر ذكره، إذ إن من عفا ساد واقترب من المراد، باعتبار الحلم يمثل شهادة على الانتصار، والصفح شكراً على الاقتدار، ومن كثر احتماله وزاد حلمة، تأكد كماله وقل ظلمه، أما من انتقم فقد شفى غيظه وأخذ حقه، وسقط شكره وساء ذكره، معانياً ذم الندم وسوء مصير المنتقم. وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه، وقال الشاعر حول هذا المعنى: |
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب |
وان كثرت منه إلى الجرائم |
فما الناس إلا واحدٌ من ثلاثة |
شريف ومشروف ومثلٌ مقاومُ |
فأما الذي فوقي: فأعرف فضله |
وأتبع فيه الحق والحق لازم |
وأما الذي دوني: فإن قال صنت عن |
إجابته عرضي وان لام لائم |
وأما الذي مثلي: فإن زل أو هفا |
تفضلت إن الحلم للفضل حاكم |
ويكفي للتسامح شرفاً، أن فضيلة التسامح تشكل ركيزة من ركائز الوسطية والاعتدال، سواء في أمور الدين أو الدنيا، فالمتسامح لا يغلو في دينه ولا يغالي في أمور دنياه، بل يتخذ بين ذلك منهجاً وسطاً، ويسلك مسلكاً مستقيماً، يحفظ له المسار ويقيه العثار، ومرد هذه الوسطية يعود إلى صحة المعتقد وسلامة الفطرة ونقاء الطبع، والتخلق بالأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة التي تتمثل في الصبر والحلم والعفو والعدل من جانب، والعلم والعقل والكرم واللين والشجاعة من جانب آخر، وقد قيل: العفو عند المقدرة كرم، والتسامح جزء من العدالة.وكل ما علا شأن الإنسان أو كبر مقامه، كان أقدر على الانتقام ومقابلة الشر بمثله أو أعظم منه، الأمر الذي يكون معه أكثر حاجة للتحلي بالحلم والصبر والعفو والعدل، وما يندرج في هذا الإطار من الصفات التي تجعل منه سيداً، حيث إن صاحب المكانة تحسب عليه كافة حركاته وسكناته أكثر من غيره، وإحسانه مقابل إساءة الآخرين خير له من أن يحصل العكس، خاصة وأن الإحسان وبذل المعروف يكون في الغالب مقروناً بالسيادة، ويعتبر من أهم لزومياتها، وإذا ما توج ذلك بالتسامح والصفح استوجب صاحبه ارتفاع القدر وتخليد الذكر.وقد اشتهر المأمون بكثرة العفو والصفح عن جنايات الجناة حتى أنه قال لإبراهيم بن المهدي عندما عفا عنه: لقد حبب إليّ العفو حتى خفت ألا أوجر عليه، أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذة لتقربوا إلينا بالجنايات، لا تثريب عليك يغفر الله لك، وقال عنه ابن المهدي فيما بعد: والله ما عفا عني لرحم ولا لمحبة، ولكن قامت له سوق في العفو كره أن يفسدها بقتلي.والإنسان إذا ما صح إيمانه بالله، وأدرك قيمة أخراه، وتعمق في معرفة دنياه، اتضح له بجلاء أن ما يقترفه الناس من إساءات، وما يخيم عليهم من حسد وتضييق به صدورهم من ضغائن وأحقاد ضد بعضهم البعض، كلها تجنيات آثمة وممارسات ظالمة، بالإضافة إلى المشاحنات والعداوات التي لا تقاس تكاليفها النفسية والمعنوية وتبعاتها المرضية في الدنيا بالأسباب المؤدية إليها والمسببات المنتظرة منها، ناهيك عن ما يترتب عليها من الذنوب والآثام في الآخرة. وهو أمر تقوم معه الحاجة إلى إيجابية التسامح وسلبية النسيان، ففيهما العلاج المعافى والترياق الشافي من هذه الآفات المحبطة والمنغصات المثبطة، وما قد ينجم عنها من عواقب مهلكة وتبعات قاتلة. وقد قيل: لا تستمر الحياة في الحركة إلا بغفران أو نسيان، وكما قال الشافعي: |
إذا عفوت ولم أحقد على أحد |
أرحت نفسي من هم العداوات |
إني أحيي عدوي عند رؤيته |
لأدفع الشر عني بالتحيات |
والمنتقم الذي يواجه الإساءة بمثلها، وقد يشفي غيظه ويبرد غليله لفترة قصيرة، ولكنه وضع نفسه في منزلة المسيء وأصبح عرضة للندم وهدفاً للذم، أما المتسامح عن قدرة فإنه يستعبد خصمه بالعفو عنه والإحسان إليه، وشتان بين الحالة الأولى والثانية، ففي الأولى تنمو الضغائن والأحقاد وتترعرع الخصومات والعداوات، وما يلازمها من تناحر وتنافر بالإضافة إلى المضار الصحية والمشاكل الاجتماعية، في حين أن الثانية تسود فيها المحبة والألفة، ويحصل بفضلها المتسامح على حسن الإحدوثة، مشيداً شرفه وباراً سلفه.والإنسان المتسامح في جميع أمور حياته، جامعاً بين القدرة وعلو الهمة وبين الصفح واللين تتحقق له السعادة ويتجه نحو السيادة، واضعاً في حسبانه أن لذة العفو خير من لذة التشفي وأن القضاء على الإساءات وقطع دابرها يكمن في التسامح عنها، أما مقابلتها بمثلها فيعني استمرارها وإيذاناً باستفحالها وطول أجلها، وقد قيل: إذا قوبلت الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءات؟. |
|