- هذيان
- حليمة مظفر
- 115 صفحة من القطع المتوسط
أحس في داخلي الميل إل الهذيان.. والثرثرة.. إلى هذا العنوان المتواضع الذي لا يأخذه الاغراق ولا الاستغراق في العناوين الضخمة والكبيرة التي ما إن تغوص في أعماقها لا تلقى إلا الخواء الفارغ.. والادعاء الكاذب.. حسناً أن اختارته عنواناً.. وحسناً أن نلقاه.. بياناً مليئاً بالتجليات الشعرية.. والتأملات الشعورية.
بداية بثرثرتها المدوية.. ماذا تعني بها؟!:
هكذا نتسنم رائحة الليل الشهية
تتقاذفنا أشباع السفر
وتقذفني معها لهاوية الشيطان..
من أجل ماذا؟! من أجل أن تثرثر، وتثرثر، وتثرثر بصوت عال يسكنه الصمت المقيت.. والسؤال لماذا أقحمت الصمت في فضاءات ثرثرتها..؟ الثرثرة.. والصمت على غير وفاق.. ومع هذا لننظر ساعة الانفراج من بين قضبان خوفها لعلها تنطق بصوت مسموع لا انكسار فيه.. ويبدو أنها خائفة من تبعات البوح.
أشهد بأم عيني مشنقة (صَهْ)
وقد نصبت لثرثرتي المدوية حبلا تتدلى منه الكلمات
حسنا تلك الكلمات المتدلية التي تروي ظمأ العطاش حتى داخل قبورهم.. اطيلي أمد الثرثرة دون خوف.
(هاك سرابي) عنوان يثرثر أيضا في دلالاته:
قال: كنا.. قلت: كنا.
قال: ماذا؟ قلت: هاك سرابي وانتفض
هاكَ عطري.. وانتشي
هاك حلمي ذاكرة مثقوبة تبحث عن أقدامي والطريق.
وتتساءل شاعرتنا.. ماذا بعد كنا، وكنا وقد صرنا بين مد وجزر، ومللنا السير في درب السراب.. وعودة بلا مصير؟
أسئلة كبيرة.. وإجابة أكثر شعوراً بالمرارة:
هذا السراب أرجوحة أمهلها فلا تمتثل
قد اختنق الهواء في جوفي
وابتلعت الصدى من عيني.. ولا مفر
هاك كتاب (الأغاني) قد نطق.. يغني على الملأ
قد كان ابن ربيعة عاشقا، وفي النساء هيامه
ما نقص من قدره العشق، ولا زاد من ميزانه الهم.
وذاك لسان العرب شاتم موجات الغضب
لو شيخنا ابن منظور في هذا الزمن
لأقسم أن لا لسان للعرب..
هكذا بدت لها الصورة سوداوية بين ماضي الكلمات، وحاضر الكدمات التي تواجه بالصمت المريع..
(أنتِ الحياة)..
طفولة الكلمات تطفو على فمي
حين تلامس أنغام همسك ابتسامة الورود
ضحكاتها تملأ عمري.. تضي دربي
تغمدني بنشوة الرقص
جميل أن تعرف الحياة ولا تقدر عليها لأنها مصابة برجفة الصقيع ورعشته.. أين المخرج من كل هذا؟
من عتبة الدار ساقتها قدماها نحو المدينة.. على رصيفها وقفت تنتظر قطعة حلوى العيد:
أبصرت أعينا شاخصة ترمقني.. بلغة الصمت تحادثني
وهجرتني وحيدة.. أرجوها أن لا تخيفني
وبين خشية الوحدة.. ووحدة الخشية.. والترقب الحذر، ومشاهد الصمت المفزع:
أحدهم يهمس في أذني.. (امتزجي بنا)!
نحن أعياد المدينة.
بين أرصفتها المكسرة تزينا!
أفقت من ظلمة عيني لأرحل من ظلمة المدينة
وساحت قدماي تبحث عن عتبة بيتنا
عادت مذعورة وهي ترقب ذلك الإعلان المهم..
قد ماتت المدينة في يوم عيد ميلادها المجيد
عادت بلا حلوى.. وقد وجدت في دارتها المتواضعة السلوى.. الأحلى من كل حلوى.. وفي سكون الدار وقد أمنت على نفسها راودها خاطر (الهذيان).
أجلس، أقف، أمشي، أتحدث، أصمت
أشيائي قد انتصبت معتوهة حولي
وبين الورق رماد المعاني تنفثها الريح نحو الملأ.
هَبْ.. أن الريح تَهبُّ دماء..!
وبعض ماء في حدقة الشمس الغاربة
هَبْ أن بعض الأقنعة تهب الحياة مشاهد انتفاضة في باحة الوجع
هَبْ أن الضباب وجه ضاحك يملأ الدرب..
أصواتنا فارغة..
افتراضات.. لا اعتراضات عليها.. فالحياة الرمادية ترسم صورتها في العيون الرمادية كما يحلو لها..
ذاتي تحرق الرماد في الذاكرة
تعبتُ بعشق صاخب يملأ سهدي
تقذفني جهنم العروبة لأنزف حجرا من دمائي
إنني أهذي..! علني أهذي، وأدق جلولي!
هذا الهذيان يا حليمة لا أحد يأخذ به، ولا يلتفت إليه.. إنه مجرد استفراغ شعوري لا مكان له في بورصة العصر.. ولا حتى في فراغات الشعر التي تفرقنا بما يحرقنا من تدنٍ.. وتسطح..
نتجاوز بعض المقطوعات إلى ما هو أكثر وقعاً.. وأكبر إيقاعاً.. سأصرخ في دمك..
سأظل رهينك التي تعصف برجولتك
سأظل هاجسك اللذيذ في عطرك
سأظل جمرة.. وكموج بحر ثائر تغرقه همسا.. ستصرخ في دمه دعاء عشق كحبات المطر.. من ذا يكون يا ترى؟!
يا رجلا أعطاني العمر خرافة حلم في عينيه
سأظل ذائبة أنا كامرأة بابلية تعتكف في عينيك
تغسلك من ماء الفرات..
تهبك أوراق التوت رداء
حتى يغفو القمر في شفتيك
عشق جنوني اختصرت به كل المسافات والمساحات.. لم تدع لعاشق مفردة يتغنى بها.. إنه أقوى من حب.. وأمضى من رغبة!
سأجتر كل نساء العلم في جسدي
وأقدمهن لك من أغصاني ورودا..
كثير هذا الحب منك.. وكثير عليه.. الموقف يصاب بالضعف والهزال حين تقوى مفردات خطابه توددا.. ومناجات..
الجانب الآخر لا يستجيب للغة الارتماء حتى ولو جاءت عن صدق.. خطاب الحب تجاذب تمليه المواقف لا الوقوف على رصيف التسول والتسول.. كوني قوية تفتح لخطابك الأبواب الموصدة.. الحب القوي الذي يملك المواجهة هو الذي لا يقبل الهزيمة..
(حكاية) تؤكد صحة مقاومة الحب
هأنا.. أحمل نعشي..
أقذفه بين المحيط.. وابتسم..
أحلق عاشقة كطفلة تسابق الريح أقدامها.. وأرحل
كما يرحل العيد..
ولكنها تعود مع زخارف العيد بعد طول انتظار كجنة كرز شهية. تغدو وتروح.. وما تلبث أن تتوقف عن الرحيل مع توقف عقارب ساعة الحائط عن الدوران.. وتنهض من جديد على دقات الطبول.. وأناشيد الحلم..
أخيرا قادتني النهاية نحو البداية
لكن الظلام يسكن العيد
وما زلت أبحث بقدمين حافيتين
عن ساعة حائط من دون عقارب..
أين دقات ساعة قلبك.. هل انها توقفت يائسة بائسة كتلك الساعة التي لا عقارب لها.. مجرد سؤال..
(أعجوبة الشيطان) تقول عنها.. وفيها:
تمردي.. انطقي..
الفظي أنفاسك ان ملتك الحياة
يا طفلة بهتت ألوانها...
ممزقة أنتِ في الشوارع والأزقة
تلملمك بارتعاش أنامل السماء
قالوا: إن قبيلتي عربية حتى النخاع
تشهد طفولة تتنسم الحصار
بين أنياب الشظايا لقمة صائغة
الصحيح (لقمة سائغة) لا صائغة:
أمهات ثكلى نفضن الرجولة عن الرجال
قالوا: قمة عربية ستطفئ حرائقنا بالحجار
ثم يأتي القراء.. أنا نعترض، ونعترض
على إيقاع الوجع ترسم صورة رمادية لواقع حاضرها وما آل إليه من ضعف وهوان
أمام الملأ شاهدنا خوفنا
والعروس الصهيونية تحتسي نخب اللقاء
دموع طفولتنا البائسة في رحاب القدس الطاهرة
وتتساءل:
هل صفدت دماؤنا في عروق قبيلتي؟
أم أنها قبيلة زيفها التاريخ
لما سلبوا الحقيقة من رحمه، واسدلوا الستار..
هذا بعض المشهد يا شاعرتنا.. الدائرة تتسع.. ثم تضيق حول رقابنا لأننا نعيش خارج فلك التاريخ.. التاريخ يكتبه أبناؤه الأقوياء (جملة مفيدة) بها أخذتنا إلى آفاق الفكر المتحرك تنبش من عقولنا شيئاً من رواسبها التي ما زالت عالقة.
تصفعنا المعلمة بمسطرتها العريضة
(صوتكن عورة)!
لا تسأل الفتاة لماذا؟!
عقلي يضج بجملة مفيدة.
(سعاد تطبخ، ويزرع خالد)
في حماقة أتساءل: ومن يحصد
الدهر أكل سبورة فصلنا
جداره حانق يمد لسانه لنا.
معلمتي تملي عليَّ أخطائي:
لماذا معلمتي يضرب المعلم زيدا؟
من الفاعل والمفعول به؟
اسكتتني بصفعة أيقنت بها ضرب المعلم لزيد!
مقاطع مجتزأة من قصيدة نقدية رائعة لجوانب من الحياة المشدودة إلى الوراء طرحتها لا يتسع المجال لاستعرضها أشهد أنها أبدعت.. ولا أروع.
(امرأة من الذاكرة) ملمح جديد للصورة الرمادية المحترقة:
بغداد، بغداد.. ردي علينا، أتسمعين النداء؟!
أمذنبون نحن بحقك؟ أم بطش هولاكو أخرسنا؟
ما ذنبكِ وأنت حبيسة الشوك والحنظل؟
سامحينا.. قد سكتنا حبا وطمعا في نجاة صراخ أطفالنا
يا حضارة الأمس أتراكِ تغادرينا؟
أم أن الحلم سيزور مضجعنا، ونرى بصيص عمركِ
بغداد يقولون عنكِ إنك عروس أرملة زُفت إلى طاغية
فأرداها جارية ذليلة..
بغداد.. ما بيدي حيلة، فأنا امرأة تبعثرت أشلاؤها
لما تناثرت الطفولة على ترابكِ فهلا سامحني صغارك؟
شيوخكِ، ونساؤك الثكلى، وشهداء الشظايا؟
من كل هذا صوته.. وشجاعته لا بد وأن يسامح لأنه قاوم بقلمه في زمن اهترأت فيه الأقلام والأقوام..
أخيراً مع (طيف التراب)..
أيها الراحلون..
هذا طيف الجنود الراكضين الراجفين إثركم
يحملون في كفهم نعش السنين القادمة
وعلى جبينهم نواح خضوع ناقمة..
قد استباحوا حق الفرات بعد اعتناق الهدنة في الزحام.
سلام عليكم اصحاب دار مؤمنين
سكنتم القبور جوعى، وانتفضتم واجفين.
وتلك الدماء ضجت بها أروقة البصرة، والنجف
سلكت دروب المستعبدين في خيام اللاجئين..
هلا روت ظمأ الشفاه الخارسة..
أيها الراحلون لدرب الدرى هلا قرأتم التوبة قبل الرحيل؟
وتركتم لنا بعض التراب
ندفن وجوهنا حين ننوي الرحيل!
بهذا البوح الوطني.. وبهذا الجرح الإنساني جاء خطابها في حجم الخطب نقداً للذات.. وتذكيراً بالمأساة.. ولعل أحرار العراق استوعبوا الدرس وسطروا ملاحم المقاومة في وجه الغزاة كما تتمنين يا شاعرتنا الإبداعية.. حليمة مظفر..
(هذيانك) صوت يقظة نحن في حاجة إلى المزيد منه.. يكفيك من ثرثرتك الرائعة أنك حملتِ رسالة القلم بكل أمانة وصدق.. وصوت القلم أشبه بالسوط اللاهب على جسد الذين استغرقهم السبات.. وفقدوا إحساسهم بكرامة الحياة، الحياة حلم ظفر وعلم يا حليمة مظفر..
سعد البواردي
الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338