الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
|
فجميع العبادات مهما اختلفت صورها، وتنوعت خصالها وأشكالها، غايتها واحدة، هي تحقيق العبودية الطوعية لله تعالى بالاستجابة لأمره وأداء ما افترض على العباد، إخلاصا لوجهه الكريم وابتغاء رضوانه في الدنيا والآخرة.
|
والحج إلى بيت الله الحرام الذي هو الركن الخامس في الإسلام، من أَجَلِّ العبادات وأقواها تأثيرا في نفس المؤمن، حيث اشتملت على العديد من الشعائر أو الخصال أو المناسك التي تحقق معاني العبودية لله تعالى والانقياد لأمره.
|
ولهذا المعنى فإن هذه العبادة إذا ما أديت على الوجه الصحيح الخالي من المعاصي، كانت سببا لتكفير الذنوب جميعا؛ كما جاء في الحديث: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).
|
قال الحافظ بن حجر: أي بغير ذنب وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات.
|
ومما يزيد هذه العبادة أهمية أنها تجب على المسلم مرة واحدة في عمره، ولا تؤدى في مكان إقامته، بل تتطلب رحلة وسفرا، تبدأ بتهيئة مالية وإيمانية بإعداد النفقة الكافية وأداء الديون والحقوق، والاستحلال من المظالم، وتوطين النفس على التوبة إلى الله سبحانه وتعالى.
|
وقد تكون رحلة الحج طويلة وشقتها بعيدة، فقد كانت تستغرق سنة كاملة من سكان بعض الأقاليم في الزمن القديم. وتتم هذه الرحلة مع رفقة من أهل البلد قد اجتمعوا على هدف واحد، فيكون الطريق فرصة لتعرف بعضهم على بعض وتوثيق الصلة فيما بينهم، وتعاونهم على حاجاتهم في طريقهم وفي مقامهم بالحرمين الشريفين وأثناء أداء المناسك، فالعالِم فيهم يفقههم ويعلمهم دينهم ويرشدهم إلى مناسك الحج، ويذكرهم بالآداب الشرعية عند كل مناسبة، والغني الميسور منهم يعود على الفقير المعوز بالصدقة والمعروف والإحسان، والقوي المتين منهم يعين الضعيف العاجز، فيتصدق بقوة بدنه كتصدق الملي بماله.
|
وعلى العموم فإن هذه الرحلة متعددة الفوائد، من أهمها الازدياد من العلم واكتساب أخلاق وآداب جديدة وأصدقاء قد تمتد الصلة الطيبة معهم بعد الحج إلى سنين عديدة.
|
فمن المهم أن يتنبه الحاج إلى هذه الفوائد بالتحلي بالأخلاق الاجتماعية اللائقة المعينة على النجاح في هذه الرحلة، كالصفح وسعة الصدر، والتغاضي عما يبدو من هفوات الرفاق وعيوبهم، إذ لا يخلو إنسان من نقص، كما قال يزيد بن محمد المهلبي:
|
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها |
كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه |
|
اترك مكاشفة الصديق إذا |
غطى على هفواته ستر |
وتجافَ عنه بلا مصارمة |
فلنعم صائن عرضك الصبر |
وتبدأ مناسك الحج بالإحرام في الطريق من مكان مؤقت محدد، فيستشعر المحرم وهو يردد التلبية أنه يجيب دعوة الله التي أبلغها نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بأمره تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَج عَمِيقٍ}(27) سورة الحج.
|
ويجد الناس من حوله وقد تجردوا من ثيابهم المعتادة وصاروا على هيئة واحدة ومظهر واحد في لباسهم الخاص بالإحرام، قد اختفت بينهم الفروق، وهذا من شأنه أن يبعث في النفوس تهيؤا لنجاح هذه الرحلة العالمية العظيمة، بتجنب كل ما يعكر صفو أجوائها الإيمانية بإثارة أسباب الفرقة أو إذكاء الخصومة والعداوة بين أبناء الأمة الواحدة: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(197) سورة البقرة.
|
وكما يحرص الحاج على معرفة أركان الحج التي لا يصح إلا بها، وواجباته وسننه ومحظوراته، ينبغي أن يحرص على معرفة المعاني التي تهدف إليها هذه المناسك وهذه المحظورات، ومنها:
|
1- إقامة ذكر الله تعالى: فإن جوهر العبادات، ولهذا تكرر التنبيه عليه في كتاب الله في مثاني آيات الحج، كقوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أيام مَّعْدُودَاتٍ}(203) سورة البقرة، وقال: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}(198) سورة البقرة، وقوله: { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أو أَشَدَّ ذِكْرًا{(200)سورة البقرة، وقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أيام مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}(28)سورة الحج. وروت عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله).
|
2 - تعظيم حرمات الله وشعائره: فإن ما أمر الله - عز وجل - به أو نهى عنه ليس كما أمر به غيره أو نهى عنه، فطاعته سبحانه وتعالى فيما أمر ونهى ليست كطاعة غيره، بل تنفرد بكونها مصحوبة بتقوى الله وتعظيم أمره في القلوب، وهكذا ينبغي أن يكون حال الناسك وهو يؤدي منسكا أو يمتنع عن محظور، قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ{(29-30)سورة الحج. وقال: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ(30-32) سورة الحج. وقال في بُدْن الهدي: } لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}(37) سورة الحج.
|
3 - تأكيد ضرورة الاستنان بسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والمتابعة له في شأنه التعبدي كله. وذلك أن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أطول عبادة متناسقة، اشتملت على تفصيل أقواله وأفعاله وتوجيهاته من لدن إحرامه بذي الحليفة إلى الطواف الذي ودع به البيت الحرام وشرع في العودة إلى المدينة. فحجة الوداع دليل عملي إذا ما حرص الحاج على الاسترشاد به، فإنه يجد نفسه في كل منسك أو عمل من أعمال الحج أو العمرة أمام هدي نبوي من القول أو الفعل، حتى يخرج من هذه العبادة مزودا بدروس عملية في الاتباع للسنة، تترك آثارها في بقية حياته بعد عودته إلى أهله.
|
والحج ملتقى عالمي سنوي للمسلمين، قدموا إليه من شتى أقطار المعمورة، ليجتمعوا في مكان لم يختره لهم بعضهم، بل ولم يوكل اختياره لنبي من الأنبياء ولا ملك من الملائكة، وإنما اصطفاه الله تبارك وتعالى وأمر أن يبنى فيه أول بيت لتوحيد الله وعبادته مباركا وهدى للعالمين، جعله مثابة للناس وأمنا وقياما لهم، وقبلة لجميع المسلمين أينما كانوا. فهو بهذه الخصائص من التكريم والتفضيل، وبمناسبة هذه العبادة التي تؤدى عنده في وقت محدد من السنة ويجتمع لها الملايين، فرصة ثمينة للتعارف بين المسلمين واطلاع بعضهم على أحوال بعض، وتبادل مشاعر الأخوة الإيمانية وتوطيد أواصر الرابطة الإسلامية العالمية.
|
فالأجواء مهيأة في هذا الموسم الإيماني الكبير، لتوحيد الكلمة على كلمة التوحيد، والتعاهُد على العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعرض الخلافات على أولي العلم والرأي والحكمة والفضل، والاستجابة إلى ما نصحوا به وارشدوا إليه، والتعرض لرحمة الله التي ينزلها في أيامه المباركات وبخاصة في يوم عرفة بقلوب سليمة من الشحناء والبغضاء، والالتزام بالآداب الشرعية التي تعطي لهذا التجمع صورته الإسلامية الحقيقية، من التحلي في الزحام بالسكينة التي هدى إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عائد من عرفات إلى مزدلفة بقوله: (أيها الناس السكينة السكينة). وسمع وراءه زجرا شديدا وضربا وصوتا للإبل، فأشار بسوطه إليهم وقال: (أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع). يعني الإسراع. فإذا كانت السكينة شأن عامة الحجاج لم يكن للزحام آثار سيئة، بل يكون مناسبة للتراحم والتعاطف والإيثار، وإنما يكون الزحام مدعاة للخصام عندما يصحبه العنف والشدة والضجر وقلة المبالاة بحرمة المسلمين، وقلة الفقه في الدين بظن أن فضائل العبادات تحصل لمن يحرص عليها دون مراعاة شرط أن لا يؤدي تحصيلها إلى أذى إخوانه من المسلمين، فقد لا يبالي من يستلم الحجر الأسود أن يكون قد آذى العشرات قبل أن يخلص إليه، أو من يتحرى الصلاة خلف المقام أن يكون تسبب في مضايقة الكثير من الطائفين.
|
والخلاصة أن هناك قضايا يحسن التركيز عليها في توعية الحجاج؛ الأولى: حرمة المسلم في نفسه وماله وعرضه، فلا يؤذى بقول ولا فعل. والثانية: حرمة البلد الحرام، وذلك يقتضي الأدب اللائق بهذه الحرمة في جميع مدة الإقامة، وخاصة في المشاعر وفي أثناء أداء المناسك. والثالثة: التعاون مع الجهات المسؤولة عن تنظيم الحجاج، والاستجابة لتوجيهاتها بسرور ومحبة، إدراكا للصلة الوطيدة بين الخطة التنظيمية العامة وبين المحافظة على الحرمتين السابقتين.
|
وسهر الجهات المسؤولة عن تنظيم الحجاج وفق خطط تكفل لهم الأمن من الحوادث التي يسببها الزحام ومخالفة التوجيهات والإرشادات، يتصل بفضل الله سبحانه وتعالى على عباده في تهيئة المملكة العربية السعودية لخدمة الحرمين الشريفين والقيام على وفود الرحمن الذين يفدون عليهما بالملايين، حيث سخرت إمكانات ضخمة مادية وبشرية لعمارة الحرمين الشريفين، وتوفير الأمن لمن يفد عليهما والتوعية الدينية والرعاية الصحية ومختلف الخدمات الأخرى، حتى يؤدي الحاج والمعتمر والزائر عباداته في أجواء من الراحة والاطمئنان.
|
فشكر الله لولاة الأمر في هذه المملكة العزيزة الغالية، ونصر بهم دينه، وجعلهم عزا وفخرا للمسلمين، وحفظ هذه البلاد وأهلها من كل سوء ومكروه، بمنه وفضله.
|
* الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي |
عضو هيئة كبار العلماء |
|