Al Jazirah NewsPaper Sunday  09/12/2007 G Issue 12855
مقـالات
الأحد 29 ذو القعدة 1428   العدد  12855
التيسير في الرمي
د. سلمان بن فهد العودة

الرمي واجب عند الجمهور؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: (خذوا عني مناسككم)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد التُقِطت له حصيات مثل حصى الخذف: (أمثال هؤلاء فارموا).

******

1 - التيسير في موضع الرمي:

موضع الرمي: هو مجتمع الحصى الذي تجتمع فيه الجمار، سواء الحوض أو ما يحيط به مما تكون فيه الأحجار، والحوض لم يكن في عهد النبوة، ولا الخلفاء الراشدين، وقد اختلف في وقت بنائه، هل كان في عهد بني أمية، أو بعد هذا، وقد كتب فيه المتخصصون.

وهنا يقول الإمام السرخسي الحنفي: فإن رماها من بعيد، فلم تقع الحصاة عند الجمرة، فإن وقعت قريباً منها أجزأه; لأن هذا القدر مما لا يتأتى التحرز عنه، خصوصاً عند كثرة الزحام، وإن وقعت بعيداً منها لم يجزه.

وهذا كلام نفيس، خصوصاً في هذه الأيام التي تحول رمي الجمار فيها إلى مشكلة عويصة، وقلّ عام إلا ويسقط العشرات، بل المئات تحت الأقدام صرعى، وينقلون جثثاً هامدة!

إن موت المسلم عند الله عظيم؛ فكيف في مثل هذه المواضع المباركة التي يأمن فيها الطير؟!

ومقصد الرمي ظاهر، كما في قول عائشة: إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله.

فأين مِن ذكر الله مَن هو مشغول بنفسه، وطالب لنجاته في وسط طوفان من الناس، ماجوا وهاجوا واختلطوا، حتى لا يملك الواحد منهم من أمر نفسه شيئاً، وتحتهم أكوام من الأحذية والملابس والحجارة، والجثث أحياناً؟!

إنني أعلم يقيناً - والله أعلم - أنه لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - كثرة الحجيج وإهلالهم من كل فج؛ لسره ذلك.

ولكن لو رأى هذه الفوضى - خاصة عند الجمرات - واضطراب أمر الناس والاقتتال، لساءه ذلك؛ لأنه خلاف هديه وسنته، والله المستعان.

والتأكيد في بعض هذه الفروع قد يسبب الوسواس؛ فيشك الحاج هل رمى ستّاً أو سبعاً، هل سقطت في الحوض أم لا؟

وربما أرهقه ما يسمع من التشديد إلى التردد على المرمى؛ لأنه شك في حصاة هل وصلت أو نقصت.

وقد أخرج النسائي وغيره عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: رجعنا في الحجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات. وبعضنا يقول: رميت بست. فلم يعب بعضهم على بعض.

2 - التيسير في وقت الرمي:

للحاج أن يرمي ليلاً.

وهو مذهب عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -، ومذهب الحنفية، ورواية عند المالكية، وأحد القولين عند الشافعية، وبه أفتى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ عبدالعزيز ابن باز، رحمه الله، حينما اشتد الزحام على الجمرات.

والدليل على ذلك ما رواه البخاري، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: (لا حرج). قال: حلقت قبل أن أنحر؟ قال: (لا حرج).

وله أن يرمي قبل الزوال في سائر الأيام، وهو منقول عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقول طاوس، وعطاء في إحدى الروايتين عنه، ومحمد الباقر، وهو رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة، وإليه ذهب ابن عقيل، وابن الجوزي من الحنابلة، والرافعي من الشافعية، ومن المعاصرين: الشيخ عبد الله آل محمود، والشيخ مصطفى الزرقاء، وشيخنا الشيخ صالح البليهي وطائفة من أهل العلم، وقواه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهم الله تعالى.

واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص للرعاء أن يرموا بالليل، وأي ساعة من النهار شاءوا.

قال ابن قدامة في الكافي: وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم.

وبما رواه البخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: (اذبح ولا حرج). فجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: (ارم ولا حرج). فما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: (افعل ولا حرج).

ومن أدلتهم: عدم وجود دليل صريح في النهي عن الرمي قبل الزوال، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من الإجماع، ولا من القياس.

وأما رمي الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الزوال، فهو بمثابة وقوفه بعرفة بعد الزوال إلى الغروب، ومن المعلوم أن الوقوف لا ينتهي بذلك الحد، بل الليل كله وقت وقوف أيضاً.

ولو كان الرمي قبل الزوال منهيّاً عنه لبيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً شافياً صريحاً حينما أجاب السائل الذي سأله عن رميه بعدما أمسى، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

ومن الأدلة: قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} - البقرة: 203 -، والرمي من الذكر، كما صح عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله. فجعل اليوم كله محلاً للذكر، ومنه الرمي.

وهذا يشبه أن يكون كالنص في المسألة عند التأمل، وبه استدل الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله تعالى - وغيره.

وكذلك قول ابن عمر - رضي الله عنهما - في رواية البخاري وغيره لمن سأله عن وقت الرمي: إذا رَمى إمامُكَ فَارْمِ.

ولو كان المتعين عنده الرمي بعد الزوال لبيّنه للسائل.

وله أن يؤخر رمي الجمرات عدا يوم العيد لليوم الأخير، لحديث عاصم بن عدي - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر.

فيجوز لمن كان في معنى الرعاة ممن هو مشغول أيام الرمي بعمل لا يفرغ معه للرمي، أو كان منزله بعيداً عن الجمرات، ويشق عليه التردد عليها، أن يؤخر رمي الجمرات إلى آخر يوم من أيام التشريق، ولا يجوز له أن يؤخره إلى ما بعد يوم الثالث عشر (آخر أيام التشريق). والرمي في هذه الحالة أداء لا قضاء، وأيام التشريق كاليوم الواحد.

وهذا قول الشافعية والحنابلة، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وهو المعتمد عندهم، واختاره الشنقيطي - رحمهم الله -.

وهكذا التأخير لتجنب الزحام والمشقة والاقتتال، فهو من أعظم المقاصد الفاضلة المعتبرة.

وحياة الناس أولى بالرعاية من حياة الحيوان، كما في حال الرعاة.

وحفظ الأرواح من المقاصد الخمسة المجمع على اعتبارها في الشريعة.

3 - التيسير في الإنابة في الرمي:

للضعفة والنساء أن يوكلوا غيرهم في الرمي، ولا حرج؛ ففي الحديث عن جابر - رضي الله عنهما - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجاجاً، ومعنا النساء والصبيان؛ فأحرمنا عن الصبيان. رواه سعيد بن منصور في سننه.

ورواه ابن ماجه وغيره بلفظ: فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم.

ورواه الترمذي بلفظ: فكنا نلبي عن النساء، ونرمي عن الصبيان.

قال ابن المنذر - رحمه الله -: كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي، كان ابن عمر يفعل ذلك، وبه قال عطاء، والزهري، ومالك، والشافعي، وإسحاق.

وأعجب من إخوة غيورين لا يسمحون لنسائهم بالخروج إلى السوق لحاجة، أو الخروج لزيارة، ثم يصرّون على ذهاب النساء إلى المرمى، حيث تلتصق الأجساد، وتطير الأغطية، وتتخطف العباءات، وتتهاوى الأجساد تحت الأقدام، والله المستعان.

وبعض الفضلاء ينحي باللائمة على الضحايا؛ لأنهم سذج ولا يعرفون الطرقات ولا يحسنون اختيار الوقت الملائم للرمي؛ أي: وقت غفلة الناس. وكأن من شروط الحاج أن يكون خِرّيتاً دليلاً عارفاً بالطريق مجرِّباً مدركاً مخطط الآخرين متى يزمعون الرمي، ومتى يكثرون، ومتى يقلون!



salman@islamtoday.net
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6847 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد