Al Jazirah NewsPaper Saturday  17/11/2007 G Issue 12833
الثقافية
السبت 07 ذو القعدة 1428   العدد  12833
كامل الشناوي ظل مبتسماً حتى مات

كان ذلك منذ أكثر من عشرين عاماً عندما التقيت بكامل الشناوي لأول مرة، كان اللقاء في مكتبه الكبير الواسع بالصحيفة التي كان يعمل بها، يومها صافحني كامل وكأنه يعرفني وحبني، ولم أكن في ذلك الوقت إلا نباتاً صغيراً ضعيفاً لا يكاد يقوى على الوقوف في وجه الضوء، وعرفت بعد ذلك أن كامل الشناوي يسلم على جميع الناس بهذه الطريقة، إنه يمدّ إليك يده ومعها ابتسامة عريضة وبهجة في العينين، وبشيء لا تستطيع أن تحدده بالضبط؛ حيث تشعر كأنه من قديم يعرفك، وكأنه من قديم يحبك، تلك عادته وذلك طبعه، يعرف الكل ويحب الكل. على أن أكثر ما لفت نظري وأدهشني أن كامل الشناوي كان يفتح باب مكتبه الكبير الضخم على مصراعيه، وأن المكتب نفسه كان أشبه بالمقهى البلدي، إنه مزدحم بالناس، يتحدث الجميع ويتناقشون ويلتفون حول كامل في صخب عنيف، وكان كامل يبدو بين الجميع سعيداً مشرقاً إلى أبعد الحدود. حكاية الباب المفتوح هذه ظلت تلازم كامل الشناوي حتى النهاية، كذلك حكاية الصخب البشري الذي يحيط به.

* ولا أذكر مرة أنني دخلت مكتبه أثناء وجودي في القاهرة في كل عام أقضي بها الإجازة إلا ووجدت بابه مفتوحاً على مصراعيه، وما كان كامل الشناوي ليستطيع أن يعيش أبداً وراء الأبواب المغلقة، وما كان ليستطيع أن يعيش وحيداً، وكانت هذه هي فضيلته الكبرى، وكانت نقطة ضعفه في نفس الوقت.. كانت فضيلته الكبرى لأن الأبواب المفتوحة دائماً حافظت على علاقة كامل الشناوي بالحياة ساخنة ملتهبة حارة، لم ينفصل أبداً عن الناس، فكان يعرفهم ويعرف كيف يحبهم، وكيف يكتشف ما فيهم من خير وجمال وأخطاء، ذلك لأنه كان يتغنى بالجمال، وكان يتفنن في السخرية بالأخطاء. وقد حافظ كامل الشناوي ببابه المفتوح على طبيعته الريفية التي تحبّ الحياة في النور تحت أشعة الشمس وتحت سقف السماء مباشرة، هذه الطبيعة الريفية دائماً تكره البيوت التي تشبه القلاع والحصون. لست أدري هل عاش كامل الشناوي في قريته (نوسا) أم لا؟ ولكنني أعتقد حتى ولو لم يعشْ في الريف فإنه كان مثالاً للإنسان القروي الأصيل، ليس في سذاجته؛ لأن كامل الشناوي لم يكن ساذجاً، ولكنه كان قروياً في أشياء أخرى أعمق، إنه مثل الريفي يعيش في حياة مشتركة مع الجميع تقريباً، لا يعرف الانطواء على نفسه أو على بيته وأسرته، ولكنه يعيش مع القرية كلها، يعرف ماذا عندها، وتعرف ماذا عنده، يعيش حياة امتزاج واندماج، لا حياة انفصال وعزلة. وعلى رغم المظهر (الاستقراطي) الذي كان يبدو أحياناً على كامل الشناوي إلا أنه كان في الحقيقة فلاحاً يعيش في المدينة ويلبس ملابسها ويظهر بمظهرها، ثم يصارع بعد ذلك من أجل أن يفرض عاداته الريفية على الجميع، وكان ينتصر، وكثيراً ما كنت أتخيل كامل الشناوي وهو يلبس جلباباً واسعاً عريضاً مما يلبسه الفلاح في قريته، وكنت أجد في خيالي هذه الصورة طبيعية وجميلة إلى أقصى حدّ؛ فقد أحال هذا الفلاح الساخر كثيراً فنادقنا الكبرى إلى مصاطب فيها ما في المصاطب من حلاوة وجمال ودنيا مليئة بالبحبوحة والانطلاق. وهذا الباب المفتوح في حياة كامل الشناوي كما كان فضيلته الكبرى وكان سرّه وسحره كان أيضاً نقطة ضعف فيه؛ فهذا الباب المفتوح منع كامل من أن يعيش مع نفسه وحيداً، وكم كان يخاف الوحدة ويرفضها أشد الرفض، وكأنه كان يرى فيها صورةً من الموت. ولو كان كامل الشناوي قد تجرّأ على وحدته وانتصر عليها لكان واحداً من أخلد وأغزر المبدعين في حياتنا الفنية على الإطلاق، فلقد كان في داخله شاعر كبير فيه ما في شاعرنا القديم عمر بن أبي ربيعة من حب للجمال وتذوق عميق له، ولكنه كان في معدنه أكثر عمقاً من ابن أبي ربيعة؛ فإن ابن أبي ربيعة كانت خلاعته تقضي على أصالته العاطفية، أما كامل الشناوي فلم يكن يعرف الخلاعة العاطفية، بل كان ذوّاقاً للجمال، وكان أصيلاً في عواطفه، وأكاد أتصوّر أنه إذا مرّت عليه صاحبة وجه جميل فهي لا تثير حواسه بالدرجة الأولى، بل تثير طربه ونشوته كأنه يسمع موسيقى رائعة أو يرى لوحة بديعة. إن الجمال الحي كان يطربه حقاً؛ لما فيه من تناسق يرضي ذوقه الحساس، فكان يُسحر بالجمال، وينتشي بهذا السحر!. ولكن كامل الشناوي لم يعشْ مع نفسه كثيراً، لم يعتزل؛ لذلك فقد كان شعره الجميل قليلاً جداً لا يملأ سوى ديوان واحد، هو أجمل حديقة تركها بعد أن مات، ولقد كان باستطاعته لو وجد القوة على أن يعيش وحيداً مع نفسه أن يكتب الكثير.

مالك ناصر درار - جدة



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد