لست أدري لماذا انزعج نفر من الناس عندما كتب أحد أساتذة العلوم الشرعية من القادرين على التفكير والاستنتاج، في العدد (16009) من جريدة الحياة عن عدم وجود الدليل (الشرعي) على أن اللغة العربية هي أفضل اللغات، أو أنها لغة أهل الجنة. لقد كان طرح الدكتور، محمد صفاء العلواني، طرحا صريحا وواضحا بأن القضية تكمن في عدم وجود الاستدلال الشرعي على تلك الأفضلية، وليس على أن زيداً أو عمراً يحبان العربية ويفضلانها على بقية لغات أهل الأرض. فالعرض الفكري الذي شدني وأسر فضولي أن الكاتب كان ينفي مبدأ (التفاضل بين اللغات) على أساس شرعي، أو الجزم بالأفضلية الشرعية للغة العربية، وليس نفي أفضلية اللغة العربية عنده أو عند غيره ممن هام وعشق العربية.
إن عشق (قيس) ل (ليلى الأخيلية)، لا يمكن أن يجعل منها أجمل فتيات العرب والعجم، وإن هيام (عنترة) ب (عبلة) لا ينبت الجوى على (عبلة) في قلوب من هم سوى (عنترة) من الرجال، الذين لم يحظوا بقلب (عبلة). وللناس فيما يعشقون مذاهب. أن نعشق العربية ونحبها، فهذا شأننا.. لأننا عربٌ نفخر (بعروبيتنا)، ونذود دونها، ونحمي حماها. لكن هذا أمر.. وأن يكون الاعتقاد بأفضليتها واجبا شرعيا، أمر آخر. لن أدعي الخوض ..هنا.. في الترجيح والتأويل والاستدلال الشرعي، فلست من أهل العلوم الشرعية، ولا أدعي ذلك. غير أنني امتثالا لأمر الله تعالى أُعمل العقل في تدبر القضايا والموضوعات، وأتعهدها بالمراجعة من حين إلى حين. وأقرأ وأفهم وأسترشد، وأبحث عن الدليل الشرعي عند أهل الشريعة، وأنظر في حججهم وقوة استدلالاتهم، لأتبع من تبدو الحجة عنده أقوى والبرهان لديه أظهر. وقد قرأت كلام الرجل في جريدة الحياة وشدني موضوعه كثيرا، وقوة استدلاله الشرعي والعقلي على نفي الأفضلية الشرعية المطلقة للغة العربية. ثم قرأت لمن كتب معقبا عليه في الجريدة ذاتها، في العددين (16016) و(16023)، وكذا في جريدة الجزيرة، في العدد (12559)، فلم أجد من الاستدلال شيئا.. عند هؤلاء، ولا من الحجة الشرعية ما يدحض القول بعدم أفضلية اللغة العربية (أفضلية شرعية) نتعبد الله بها لذاتها ولحروفها ولألفاظها ولمركباتها ولبلاغتها ولنحوها ولصرفها. وحيث لا يبدو أن ثمة دليلا صريحا على أفضلية اللغة العربية أو على أفضلية جنس العرب، أو على أن العربية هي لغة أهل الجنة، فسأبقى أحب هذه اللغة وأهيم بها وبأهلها، ولكنها (أبدا) ليست أفضل اللغات ولا أتمها ولا أكملها بالضرورة، رغم كل ما تتمتع به من ثراء وقوة. وحتى أبدد شيئا من أقوى حجج المتأولين لأفضلية اللغة بنزول القرآن الكريم بها واصطفائها من بين اللغات لكتاب الله تعالى، فقد ذكر الدكتور محمد صفاء ما يبين أن قدسية وخصوصية القرآن الكريم وتعبّد الحق تبارك وتعالى لنا بتلاوته، إنما هو لذات القرآن الكريم، وليس لذات اللغة. وكذا أوراق المصحف الشريف إنما تكسب قدسيتها، وأحكام مساسها، لما كتب عليها من آيات الذكر الحكيم. وفيما سوى ذلك، فهي لا تعدو أن تكون ورقا غير ذي قيمه حتى لو أنها استخدمت لكتابة أكمل وأجمل وأفضل قصائد العرب، مثلا. ثم إن الله تعالى قد اختار لغات أخرى غير العربية فأنزل بها التوراة والإنجيل، وكلها كتبٌ من عند الله تعالى وفيها كلامه جل جلاله.
إن اللغة في أبسط معانيها وعاء للمضمون وللمحتوى، وللثقافة، وأداة للتفاعل بين أبنائها. وفي زمننا الحاضر الذي تدنت فيه مخرجاتنا الثقافية، وعز بيننا التفاعل لعمارة الأرض بما استخلفنا الله فيه، يبدو من غير المعقول أن ندعي الأفضلية لأيٍّ من منتجاتنا العربية المعاصرة. قد تكون العربية سادت في زمن مضى، وقد يكون العرب أهل مجد وسؤدد في غابرٍ من الزمن، لكن واقعنا العربي اليوم بكل مركباته اللغوية وغير اللغوية يجعلنا أبعد ما نكون من الأفضلية، بالمنظور العام لنا، وإن كان من بيننا من قد يكون فاضلا. إن أي مقارنة بين (العربية) المعاصرة، وعدد من لغات العالم المعاصر، ومن بينها: الإنجليزية، والصينية، واليابانية، تحديدا، سوف تقلق كثيرين عندما يعرفون أن العالم المعاصر قد يدين بالفضل لهذه اللغات ولأهلها، في حين يلقون حمما من السخرية والازدراء للعرب وللمجتمعات العربية. ولنا في حكاية ابن الأعرابي درس عربي، إذ سأله الخليفة أي الدارين أفضل: دار أبيه، أم دار الخليفة. فقال الطفل: ما دام الخليفة في دار أبي فدار أبي أفضل. لقد وعى هذا الصبي العربي أن دار الخليفة ليست بذات قيمة ما دام الخليفة خارجها، وأن دار أبيه هي الأفضل لأن فيها الخليفة. فالتفاضل مبني على المضمون والمحتوى، وليس على رغباتنا وأهوائنا وأمانينا. أيها الكاتب المبدع محمد صفاء، إنني أجزم أنك حين تدعو للبحث عن الدليل الشرعي لنراجع في ضوئه كثيرا من مدخراتنا وقناعاتنا، فأنت تقلق كثيرين لا يروق لهم ذلك، ممن لم يتعودوا على إعمال الفكر أصلا، ناهيك عن آخرين اتخذوا من مقولة (الله لا يغير علينا) منهجا ارتضوه واستكانوا إليه. ولكن أيضا أنت بذلك توقظ همة آخرين، أرجو أن يكونوا هم الأغلبية الصامتة، فيعيدوا النظر في كثير من موروثات شعوبنا، مما يحتاج تعاهدا مستمرا بالمراجعات والتقويم، بحثا عن الأصوب والأصح، وسعيا لترك العنصرية والشعوبية (المنتنة). فعوضا عن تخدير شبابنا بأحلام الأفضلية المزعومة، علينا أن نوقظ فيهم حس التنافس والعمل البناء من أجل أن نكون (فعلا) نحن الأفضل، ومن أجل أن يكون تفاضلنا مع غيرنا تفاضلا نديا قائما على معايير كبرى كثيرة ومتعددة في مقدمتها معيار (التقوى)، وما أدراك ما التقوى؟ وليس الجنس ولا اللون ولا اللغة من بينها. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7318» ثم أرسلها إلى الكود 82244
(*)نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
alhumoodmail@yahoo.com