هناك كتب مفقودة إلى الأبد.. نعم إلى الأبد.. ولا أعني بها الكتب القيمة التي يجهلها الناس.. كما لا أعني الكتب التي يفقدها المؤلفون في دور النشر أو بعض دور (النصب)؛ لأنه كما يوجد سارقون للمال والمجوهرات يوجد سارقون للكتب. الكتب التي لها ساقان، وأقصد بها (الكتب المعارة).
لوالدي أطال الله في عمره عشق هائل للكتب.. كل كتاب يساوي روحه وهو لا يزال يحتفظ بها بكل الحرص مع أن أوراقها أصبحت شديدة الاصفرار كأوراق الخريف ومع ذلك فهي عنده كنز لا يقدر بثمن. الآن فقط عرفت لماذا كان والدي يكره إعارة الكتب إلا مكرهاً مع صديق ملحاح، وصاحب حاجة، علماً أن كتبه كانت تشاركه أساسيات حياته.
كم مرة ذهب الكتاب المعار في خبر كان... وذهبت الأماني في خبر ليت.. فالكتاب المنكوب تنبت له ساقان ثم يسير من بيت لآخر وربما من مدينة لأخرى. يضيع عن قصد أو غير قصد. وما شاء الله... هناك أناس يشربون الشاي والقهوة فوق الكتاب ويسقون الصفحات من الزيت والزعتر والسلطات. وقد يكتبون ملاحظاتهم وآراءهم وأرقام هواتف بعض الزملاء.. وربما يحسبون على صفحاته حساباتهم اليومية من طعام وشراب وغيره. فإذا ما عاد الكتاب بعد جهد جهيد وبعد زيارات وطلبات يعلم الله عددها، عاد منهكاً كئيباً كامداً ممزّق القلب، منزوع الجلد، منتوف الريش، حاله حال معذبيّ العالم الثالث. ولابد من إعادة بناء وتجديد حتى يعود له بعض الروح والرونق. أحب الكتب وأعشقها عشق والدي لها... وأذكر مرة عندما كنت أدرس في كلية الطب أنه كان لدي دفتر فائق الترتيب في الكيمياء الحيوية. وكان لي زميل لطيف المعشر (وهو ابن أحد الدبلوماسيين العرب) رسب في المادة وصمم على استعارة دفتري.
وقد مر خمس وعشرون سنة وما زلت أذكر دفتري بكل أسى وحسرة. لقد طار الدفتر من دمشق إلى الإمارات العربية إلى طوكيو إلى الجزائر ولا أعرف أين استقر به المطاف؟.
وبعد عامين ألحّ علي زميل آخر في طلب دفتر فحدّثته عن تجربتي ومخاوفي، فطمأنني فوثقت به. وضاع الدفتر.. ولا تسألوني كيف؟
لقد أعاره الزميل إلى زميل آخر وذاك الزميل أعاره لابن رئيسه في العمل الذي تخرج ثم سافر إلى أمريكا للدراسة وانقطعت أخباره وأخبار الدفتر عنا وإلى الأبد.
وفي كل مرة أزور فيها (القارة الأمريكية) تراودني قصة دفتري، ويسائلني تفكيري هل من الممكن أن يعود ذلك الدفتر؟ ثم يأتي الجواب بالنفي المطلق. ولا يهدئ انزعاجي إلا أنني قد تركت هناك أثراً اسمه (دفتري). وأطمئن نفسي علّني أجده في الزيارات القادمة معروضاً في إحدى المكتبات المهمة وتحديداً في قسم المخطوطات النادرة. ولا أخفي عليكم أنني رأيته في المنام يوماً معروضاً في قاعةٍ من قاعات مكتبة (الكونغرس) نفسها، محاطاً بزجاج سميك، كُتِب عليه عبارة (ممنوع التصوير واللمس).
في حياتنا الشخصية أشياء لها قيمة كبيرة بالنسبة لنا ولو بدت تافهة في نظر الآخرين. رُبّ رسالة تحمل ذكرى عطرة طيبة نحتفظ بها كل العمر بينما هي مجرد ورقة وحبر بالنسبة لغيرنا.
تعلمت من تلك التجارب ألا أعطي شيئاً إلا ولدي نسخة منه؛ لأنه ببساطة لا يوجد أحد أهلاً للثقة المطلقة... فحتى الذين نثق بهم بشدة قد يتعرضون لظروف قاهرة.
نحمد الله أن اليابانيين طوروا لنا أجهزة التصوير (الفوتوكوبي) وأجهزة الكمبيوتر و(الماسح الضوئي). تلك الأجهزة التي خلصتنا من مشاكل لا نهاية لها مع أناس طبعهم الإهمال والتواكل... ورغم كل ذلك فإن الحذر لا يمنع القدر.
وكل رمضان وأنتم بخير وكتبكم بخير أيضاً...
د. محمد غياث التركماني |