Saturday 30th September,200612420العددالسبت 8 ,رمضان 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"محليــات"

يارا يارا
موت الذين يوقظون الحسرة
عبدالله بن بخيت

لا أجد نفسي كاتب مناسبات. إذا دخل رمضان هنأت المسلمين وكتبت عن فوائد الشهر الفضيل وعادات الناس السيئة وكيف كان رمضان أيام زمان. وإذا وصل اللاعب دينلسون ذكرت الجماهير باللاعب ريفالينو والأهداف الجميلة التي سددها في مرمى مبروك التركي وتباكيت على الكورة أيام زمان. وإذا مات إنسان ترحمت عليه وعددت فضائله ومناقبه ثم ذكرت الناس بالأحوال أيام زمان. الشيء الذي أنقذ زاويتي من الزمانية وأنجاها من كتابة المناسبات أن عالم اليوم أصبح قائماً على المناسبات حتى أضحت المناسبات سياقاً يومياً. كثرتها وتنوعها وطبيعة العصر السريع المتغير أفقدها أهميتها. هناك مناسبات لا يمكن تفاديها أو تجاوزها. ليس لأن المناسبة تفرض عليك نفسها ولكن لأنك كاتب يفترض أن تسجل موقفاً. لا يمكن لأي كاتب عاصر الهجوم الإسرائيلي البشع على لبنان أن يصمت. أو شاهد انهيار سوق الأسهم وضياع مليارات الناس في الأوهام ويسكت. أو تابع البشاعة التي قطع بها أشقياء الإرهاب رأس الأمريكي ويسكت. في بعض الأحيان يكون التعبير عن المناسبات هو تعبير عن الرأي والفكر والمسؤولية. فالحدث مفردة تعبر بها عن موقفك من هذا العالم.
كُتب لي أن أغيب عن موت ثلاثة رجال من المهمين في حياتي العامة. لم أكتب عن موتهم رغم أن أحداث موتهم حركت العالم بالنسبة لي وغيرت موضعه. قبل سنوات مات طلال مداح على خشبة المسرح. كان في مراحل تألقه الأخيرة لم أعد أصغ إليه كثيراً. كنت أظن أن تأثيره انطفأ في وجداني لكن موته بالطريقة الدرامية كان كافياً لإيقاض الأحاسيس التي صنعها في مشاعري. احتجت إلى أشهر طويلة حتى أعترف أن طلال مداح مات وأقبل حقيقة موته فلم تعد مناسبة موته مناسبة يكتب عنها. قبل أربع سنوات تقريباً مات الأمير عبدالرحمن بن سعود. عندما جاء خبره كنت أتمتع بإجازتي السنوية ترحمت عليه والتفت إلى شغلي وحياتي اليومية فأنا لا أعرفه على المستوى الشخصي وليس بيني وبينه أي علاقة خاصة ولكن بعد حوالي شهرين عدت إلى المملكة وعدت إلى الكتابة شعرت أن هناك مشكلة. تنبهت إلى أهمية عبدالرحمن بن سعود في حياتي. بموته سقط جزء من اهتمامي بالحياة. تنبهت إلى أن علاقتي بالرياضة والكورة هي جزء كبير من علاقتي بالماضي. شارع العطايف وشارع الخزان والظهيرة كان عبدالرحمن بن سعود واحداً من رموز هذا الماضي وبموته انطفأت واحدة من الشعلات القديمة وتوقفت عن التأثير. قبل أسابيع مات نجيب محفوظ. كان مريضاً ومسناً وغائباً. لم أقرأ له كتاباً منذ أكثر من عشرين سنة والمكتبات لم تعد توفر كتباً على الطراز الذي يكتب به. وفقاً لسياق ثقافتي ومعارفي صنفت نجيب محفوظ ضمن مؤلفي الكتب الصفراء الغابرة التي لا يقرأها إلا الأكاديميون أو المسنون الذين يبحثون عن ماضيهم عبثاً.
كنت أجلس أمام التلفزيون فجأة ظهر شريط الأخبار العاجلة في إحدى القنوات يخبرني أن نجيب محفوظ مات. شعرت بانقباض خفيف تركته حوالي أربع أو خمس دقائق ولكي لا يتفاقم التفت إلى الكتب المرصوصة في مكتبي وأخرجت أول كتاب قرأته له. دون أن أشعر قلبت الكتاب بسرعة حتى وقعت على الفصل الذي وقف فيه أحمد عاكف بطل قصة خان الخليلي يطل من البلكونة، يشاهد حبيبته السابقة وخطيبة أخيه التي اختطفها منه دون أن يشعر، تسير في الشارع، تحتفل بشبابها، متناسية بسرعة قياسية موت خطيبها وحبيب قلبها. في رسالة واضحة وصريحة كشفت لي منذ ذلك الحين أن العالم سوف يسير في خطه المرسوم غير عابئ بموت من يموت. كانت تلك الفتاة أول فتاة درامية أصنع منها مادة رومانسية لخيالي المراهق. جعلتها أداة للتحطيم العاطفي وإشعال وقود الخيانة الوجودية. ولسخرية الزمان كانت حبيبتي الحقيقية قد هجرتني وصارت تراسل مراهقاً آخر وبعد فترة قصيرة أصيبت بمرض خطير ثم ماتت. أصبح بعدها نجيب محفوظ حاضراً في ذاكرتي يمثل الحب العاثر الذي ينتهي بفاجعة وليس مجرد كاتب رواية احترافية علمني كيف أكتب. وكل عام وأنتم بخير.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved