وليس.. أدل على واقع الحال سوى المثل المصري الشعبي القائل: (مثل القرعة التي تتباهى بشعر بنت أختها) والذي كنت أحسبه طيلة تلك السنوات اجتماعياً بيد أنه سياسي، ولا أبلغ من المثل سوى الذين يتباهون باللبنانيين في هذه الظروف التي لا تحتمل أي مزايدات أو مهاترات من وزن أنصاف الرجال وأنصاف الحلول...
وليس... مبالغاً القول إن هناك من يريد تحرير القدس حتى آخر طفل لبناني متاجرين بالقضية اللبنانية بصورة تصيب بالدهشة والحسرة بالوقت الذي مازالت فيه الجولان السورية تحت الاحتلال ومع عدم سماح الحكومة السورية للمقاومة في أراضيها بإطلاق رصاصة واحدة ضد إسرائيل.
وليس.. باليسير كذلك السؤال: كم مرة أفلت الزناد من السوريين صوب إخوانهم في العروبة؟! ممن لا يقنع أطفالهم قبل رجالهم أن ينحصر نطاق النصر والبطولات العربية في صمود المقاومة اللبنانية حتى باتت نصرا يتباهى به السوريون بالوقت الذي مازالت فيه الأراضي الفلسطينية كاملة تحت الاحتلال وهضبة الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية، فهل انكمش النصر في هذا الزمان حتى تجسد وانحصر في حالة الصمود لا التحرير.
يا أخي.. موجز القول عند أختك السعودية.. راجع مادة التاريخ أياً كانت عالمية أو إسلامية أو عربية والله ثم والله... إني أنصحك (لا) أفضحك فلقد دخلت أرضاً ليست بأرضك وحقلاً ليس بحقلك فالعلوم السياسية والتاريخية ليست مثل العلوم الطبية والصحية، كما أن المواقف الرجولية تنقل عنك في ميادين الرجال (لا) تسمع منك في المنابر، أضف إلى ذلك أن ترديد الأقاويل العارية عن الصحة حول جيرانك العرب لن يجعلها حقائق؛ فمصر العروبة وحتى آخر رجل حررت صحراء سيناء التي تتعدى مساحتها مساحة سوريا، أما السعودية وإن لم تكن من دول طوق المواجهة مع إسرائيل بيد أن بها رجالاً أشداء صدقوا ما عاهدوا الله عليه يشهد التاريخ على مواقفهم النبيلة وما تتمتع به القيادة السياسية ومن شهامة وحزمة مصطلحات أتصور أنها نادرة هذه الأيام مثل الحنكة والخبرة السياسية وفنون التفاوض، وبالمقابل يتميز غيرهم بمهارات إجادة فنون الخطابة وطوي أعناق الحقائق التي لن تعوض عن الخبرات السياسية والمواقف التاريخية.
هذا ومن بين الأمثال الشعبية العربية كذلك مقولة: إلى الميدان ياحميدان.... التي تغني عن قول الكثير، وبما أن المقام أصبح مقام خطب وأمثال فيسعدني ترديد الأناشيد الجميلة التي كنت أسمعها في الصغر بمسلسل عالم النحل الذي يحث على العمل والمثابرة ويقال فيه: بشار يا بشار هيا إلى العمل.... هيا إلى الجد ولنجمع رحيق الأزهار إلى أن أصبح النشيد القومي بعالم النحل يقتضي كل صباح بترديد الأنشودة.
وعودة للصراع العربي الإسرائيلي لا ريب أن القضية الفلسطينية كانت ومازالت رمزاً للعروبة ومن أهم نقاط التقارب والخلاف بين العرب على مر التاريخ، ومعروف أن المعلم الأول في تاريخ القضية الفلسطينية هو المغفور له الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه عندما وضع حجر الأساسي السياسي للفلسطينيين والعرب بمقولة تاريخية لم يسجل التاريخ السياسي مثلها حتى الآن في بعد النظر والحنكة، ننصح بها الفلسطينيين أن يتحملوا مسؤولية قضيتهم مباشرة وأن يتخذوا قراراتهم مستقلين عن الدول العربية كما ننصح الدول العربية بأن لا تتدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية وتكتفي بدعمهم مالياً ودبلوماسياً وبالسلاح.
موقف المملكة من قضية فلسطين يعد من الثوابت الرئيسية لسياسة المملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه الذي أولى لها اهتماماً عظيماً وكرس حياته لخدمة القضية الفلسطينية على الأصعدة الدولية، كما أوفد ابنه الأمير فيصل (الملك فيصل) إلى مؤتمر لندن عام 1935 م المعروف بمؤتمر المائدة المستديرة لمناقشة القضية الفلسطينية وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله يسجل التاريخ العالمي والإسلامي لجميع ملوك السعودية بلا استثناء مواقف عظيمة ودعما ماديا غير محدود، وتحركات سياسية محورية استراتيجية، واحتضان كامل للشعب الفلسطيني حتى في اللحظات الحرجة التي قنن بعض العرب فيها العلاقات والدعم المادي وأقفلت بعض مكاتب الحركات السياسية الفلسطينية بالعالم العربي.
كما تعد المملكة العربية السعودية أول من اعترف بحكومة عموم فلسطين وسمحت بافتتاح مكتب تمثيلي لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في الرياض وبعدها كانت كذلك في طليعة الدول التي اعترفت بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة فور إعلانها في العام 1988م وأقامت سفارة فلسطينية في المملكة وقدمت مبنى السفارة الفلسطينية في العاصمة الرياض هدية للشعب الفلسطيني، ورغم تنوع مواقف ملوك السعودية التاريخية والعظيمة التي تملأ كتب التاريخ ولا تقتصر على المبادرات والدعومات المالية فحسب ولا يتسع لها المقال بل تحتاج إلى موسوعات يجدر ذكر آخر مبادرتين وليس أول مبادرة سعودية طرحت وكانت مبادرة الملك عبدالله الذي أولى القضية الفلسطينية اهتماماً بالغاً وعرض مبادرة السلام التي أعلن عنها سموه عندما كان ولياً للعهد في قمة بيروت (مارس 2002م) وتبنتها الدول العربية كمشروع عربي موحد لحل النزاع العربي الفلسطيني والتي توفر الأمن والاستقرار لجميع شعوب المنطقة وتؤمن حلاً دائماً وعادلاً وشاملاً للصراع العربي الإسرائيلي وتتلخص المبادرة فيمايلي:
1 - الانسحاب من الأراضي المحتلة حتى حدود (4) يونيو 1967 م.
2 - القبول بقيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة وعاصمتها القدس.
3 - حل قضية اللاجئين وفقاً للقرارات الشرعية الدولية.
4 - كما أشارت المبادرة إلى أن قبول إسرائيل بالمطالب العربية يعني قيام (علاقات طبيعية) بينها وبين الدول العربية.
وقبلها كانت مبادرة الملك فهد رحمة الله عليه التي طرحت بمسمى مشروع الملك فهد للسلام في مؤتمر القمة العربي الذي عقد في مدينة فاس المغربية عام 1982م ووافقت عليه الدول العربية وأصبح أساساً للمشروع العربي للسلام كما كانت هذه البادرة أساساً لمؤتمر السلام في مدريد عام 1991م، ويتكون المشروع من المبادئ التالية:
1 - انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967 م بما فيها مدينة القدس.
2 - إزالة المستعمرات التي أقامتها إسرائيل في الأراضي العربية بعد عام 1967م.
3 - ضمان حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية لجميع الأديان في الأماكن المقدسة.
4 - تأكيد حق الشعب الفلسطيني في العودة وتعويض من لا يرغب في العودة.
5 - تخضع الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية تحت إشراف الأمم المتحدة ولمدة لا تزيد على بضعة أشهر.
6 - قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
7 - تأكيد حق دول المنطقة في العيش بسلام.
8 - تقوم الأمم المتحدة أو بعض الدول الأعضاء فيها بضمان تنفيذ تلك المبادئ.
وقطعاً لم يبقَ للتذكير سوى... بالدور التاريخي العظيم للزعيم الإسلامي جلالة الملك فيصل طيب الله ثراه الذي كرس حياته كاملة لخدمة القضية الفلسطينية ويعد من محنكي العرب ومؤسسي السياسة السعودية وأول وزير للخارجية السعودية (عام 1930).
إن خدمة الوطن والأمة الإسلامية شرف لا يضاهيه شرف ولا يمكن عبر الخطب والشعارات الجوفاء طوي أعناق الحقائق وتغير مجريات التاريخ العالمي والإسلامي فالكلمات لا تسطر مجداً أو تاريخاً وإن جاءت في زمن تطاول فيها الأقزام على العمالقة.
والتاريخ يشهد ويسطر في فجر كل صباح المواقف الرجولية السعودية منذ عهد المؤسس رحمة الله عليه وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين حفظه الله التي تتحدث عن نفسها بنفسها وعن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وعملوا مع غيرهم بصدق وعزيمة الأبرار.
ومعروف كذلك بسنوات التاريخ وبخط القدر احتدام وتصاعد حدة الصراع العربي الإسرائيلي الذي دار بعهد الملك فيصل طيب الله ثراه (من 1964 م وحتى 1975م ) فمنذ عام 1964م احتد واشتد الصراع العربي - الإسرائيلي وأعلن بنفس السنة عن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وفي الأول من يناير 1965 بدأت الثورة الفلسطينية.
وحتى نشوء حرب الأيام الست 1967 م التي هزت العالم الإسلامي نتيجة انتهاء الحرب بنصر إسرائيلي ترتب عليه احتلال إسرائيل لقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء من مصر والقدس الشرقية العربية والضفة الغربية من نهر الأردن وهضبة الجولان من سوريا وأصبح حجم إسرائيل أكبر أربعة مرات عما كان عليه عند وقف إطلاق النار في 1949 م وضمت المناطق العربية المحتلة حوالي مليون وخمسمائة ألف عربي.
إلى أن استعاد العرب جزءا كبيرا من كرامتهم في 6 اكتوبر من عام 1973 م وألقى الملك فيصل فعلياً كامل الثقل السياسي والاقتصادي السعودي لخدمة القضية الفلسطينية والجيوش العربية عند مجابهة الصهاينة وأرسل الملك فيصل أبناءه الأمراء قبل المواطنين السعوديين للانضمام للجيوش العربية وقطع النفط السعودي عن العالم بعام 1973م وقامت مجلة التايم الأمريكية بتسميته رجل العام لسنة 1974 م وسطرت كتب التاريخ العالمية قبل الإسلامية مواقف الملك فيصل الذي لقب بالأسطورة الإسلامية باعتباره زعيم وقائد الأمة العربية والإسلامية بتلك الحقبة التاريخية.
عندها قال ونفذ الملك فيصل رحمه الله في حرب اكتوبر عام 1973 م المقولة المشهورة التي قرّع بها كيسينجر وزير خارجية أمريكا آنذاك: (نحن كنا ولانزال بدوا، وكنا نعيش في الخيام، وغذاؤنا التمر والماء فقط، ونحن مستعدون للعودة إلى ما كنا عليه، أما أنتم الغربيون فهل تستطيعون أن تعيشوا بدون النفط؟).
كما قال ونفذ الملك فيصل فكرة توحيد صفوف الأمة الإسلامية ونفذ مشروع التضامن الإسلامي بمؤسسة تشمل العالم المسلم وتحرك في الأقطار الإسلامية لشرح الفكرة ونجح في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم الآن أكثر من 50 دولة إسلامية وسجل في عام 1969 م انعقاد أول مؤتمر إسلامي جامع برعاية الملك فيصل إثر محاولة إحراق المسجد الأقصى بعام 1969 م واستطاع بحنكة وحكمة أن يقطع رحمة الله عليه علاقات أكثر من 42 دولة مع إسرائيل، وحتى لحظة اغتيل الملك فيصل طيب الله ثراه عام 1975 م كان يتمنى أن يصلي بالقدس بعد أن يحرر الأراضي الفلسطينية من الاحتلال الصهيوني حيث كانت من (قبل) ومازالت من (بعد) أمنية رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما زايدوا عليها في يوم من أيام التاريخ.
|