(1)
قال لي قبل سفره للعلاج حينما زرته مطمئناً ومودعاً في مستشفى الحرس الوطني بالرياض يوم الأربعاء 3-8-2006م، عندما لمح في وجهي (شهقة) القلق والجزع والخوف وهو يروي لي خطوات اكتشافه مرضه القاتل: (لا تقلق؛ فأنا شديد العزيمة، مؤمن بإرادة الله ومحب للحياة..).
(2)
ولد في الأحساء
واختار الأحساء لتكون مقره ومثواه الأخير إلى جانب والده ووالدته وأهله..
كانت حياته مليئة بكل الصمود والتحدي والعزيمة والإرادة والإنجاز والمحبة..
لمعت حياته بكل جماليات الكون، فكان يرى كل ما حوله وروداً وخضرة وجمالاً وحباً وعشقاً وحياة..
احتضنته الأحساء، فأرضعته من لطف أهلها، وشجاعة رجالها، وعطاء نخيلها، وعذوبة عيونها، وصفاء قمرها، ونقاء نجومها، وبساطة حياتها؛ ما انعكس على نظرته وتفكيره وسلوكه.. فحمل معه كل هذه الجماليات (طالباً) يدرس القانون في (القاهرة).. حيث أضفى صفاء وجمال وخلود النيل ونجوم القاهرة المنعكسة عليه.. امتداداً لما تركته عيون ونخيل وبساطة أهل الأحساء على قلبه وعقله ومشاعره وعزة نفسه وشجاعته وكرم أخلاقه.
(3)
لم يكتف بشهادة البكالوريوس..
ولم يكتف بعلم حصل عليه من جامعات القاهرة..
بل كان لتأثير نخيل الأحساء وصمودها وامتداد وخلود النيل وجريانه من مكان بعيد إلى مكان أبعد، الأثر النفسي العميق في قراره الحصول على شهادات أعلى، وعلم أكثر غزارة، من جامعات فرنسا العريقة..
وحينما عاد إلى بلاده الحبيبة..
عاد بعلمه واندفاعه وحب وطنه وطموحاته..
ولعل تلاميذه في جامعة الملك سعود يذكرون حيويته، وحبه للناس والوطن والعلم والمعرفة والبحث..
(4)
عرّفني عليه منذ أكثر من سبعة وعشرين عاماً الصديق الوفي القريب إلى النفس الأستاذ سليمان الحربش..
هاتفني - حينذاك - وهو يدعوني إلى العشاء: (هل تعرف الدكتور محمد الجبر؟)، وحينما أجبته بالنفي.. بادرني قائلاً: (سأعرفك على شخصية علمية رائعة.. ستعتز ما حييت بمعرفتها..)، ثم أضاف: (كلما تمكنت من اختصار المسافة بينك وبينه.. استطعت الدخول إلى عقله وقلبه وتجربته وعلمه ووفائه..).
وفي حقيقة الأمر، فإنني وكثيرين غيري نعتز بمعرفتنا بشخصية الراحل الكبير..
كان رجلاً في وفائه..
صادقاً في إخلاصه..
أميناً في علمه..
شريفاً في سلوكه..
مؤمناً بعمله..
عاشقاً كبيراً لوطنه..
(5)
حينما اختاره معالي الدكتور سليمان السليم ليكون وكيلاً لوزارة التجارة للشؤون الفنية.. لم يأتِ اختياره خبط عشواء، وإنما عن قناعة بأن الدكتور الجبر سيملأ وسيعزز وسيثري المنصب الذي تم تعيينه فيه..
وعندما رشحه الدكتور السليم ليكون رئيساً للجمارك لم يأتِ الترشيح من فراغ، وإنما عن قناعة ومعرفة بمقدرة الرجل وقدرته على تطوير جهاز الجمارك..
وحينما أبدى الدكتور الجبر رغبته في عدم تجديد استمراره في منصبه برئاسة الجمارك، حاول (وزيره) ثنيه عن ذلك، إلا أن (أبو حسن) أصر على ذلك، رغبة منه في التفرغ لحياته وعلمه وأبحاثه..!
وعندما علم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بذلك، وكان في زيارة لمنطقة الأحساء، أبدى - حفظه الله - للدكتور الجبر رغبته الشخصية في الاستمرار في خدمة وطنه.. فامتثل - رحمه الله - لأمر الملك ونداء الوطن.
(6)
صدرت الإرادة الملكية بتعيينه رئيساً لهيئة الخبراء..
كان سعيداً للغاية بموقعه الجديد
كان مؤمناً بأنه المكان المناسب الذي سيخدم من خلاله وطنه وأهله أكثر..
لقد أعطى من موقعه كرئيس لهيئة الخبراء عصارة فكره وعلمه وخبرته وحكمته وصبره وإصراره على الخلق والإبداع.. ومحاولة الوصول إلى الكمال..
أشرف على صياغة القرارات المهمة..
أوصى بتعديل الكثير من الأنظمة؛ لكي تنسجم موادها مع متطلبات الوطن والعصر..
سهر الليالي والأيام على مراجعة ودراسة السياسات واللوائح والأنظمة الجديدة، وأعطى لصاحب القرار المشورة القانونية والنظامية المخلصة.. بروح المسؤول والمواطن والعالم..
أدار ورأس الكثير من اللجان الحكومية والمهنية المتخصصة بحكمة القاضي.. ومرونة المسؤول.. ودقة العالم..
وأشهد أن له دوراً كبيراً في جعل المسؤولين والمراجعين والمدققين الماليين يمارسون عملهم مع إدارة صندوق التنمية الصناعية السعودي من خلال الأنظمة والسياسات واللوائح المعتمدة من مجلس إدارته.. وليس من خلال الأنظمة الأخرى، انطلاقاً من مراجعته الدقيقة، ودراسته المتأنية لكل قرارات المقام السامي ومجلس الوزراء الخاصة بالصندوق؛ ما منح إدارة الصندوق التنفيذية مناخاً صحياً أفضل، يستطيع فيه خدمة الهدف الكبير الذي أنشئ من أجله.
(7)
يستقبلك بابتسامة لطيفة..
ويودعك بابتسامة ألطف..
كريم في أخلاقه..
ودود في حديثه..
رقيق في تعامله..
لا تملّ مجلسه..
حازم من غير عنف..
جسور على الشدائد..
صبور على المصاعب..
يحقق ما يريد بالحكمة وثاقب الرأي والإصرار..
(8)
استشرى المرض في جسده..
وانتشر في خلايا جسمه..
دون أن يدري..!
فقد كان يعزو كل إحساس بالتعب والإرهاق إلى توظيف عقله وفكره ووقته وخبرته وكل طاقته لعمله وخدمة وطنه..
لم يدر في خلده أبداً أن كل يوم يمضي، وهو خاضع لهذا الشعور الاستثنائي بحب الوطن والعمل، والرغبة في خدمته، كان يقربه من النهاية..!
وعندما وقف على حقيقة الأمر..
كان الأمر خطيراً..
كان الوقت متأخراً..
وكان العِلم عاجزاً..
وكانت إرادة الله فوق إرادة كل البشر..
(9)
رحم الله عاشق الوطن..
رحمة واسعة..
وغفر الله له مغفرة عظيمة..
وأسكنه فسيح جناته..
وأعان الله زوجته ورفيقة دربه على رحيله وفقدانه..
وألهم أهله وأحبابه وأصدقاءه الصبر والسلوان
والله المستعان
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
* مساعد مدير عام صندوق التنمية الصناعية |