ما أن يعلن عن طرح أسهم شركة للاكتتاب العام حتى تبدأ الأسئلة حول مدى مشروعية الاكتتاب، و تتراوح الإجابات ما بين الجواز مع بعض التحفظات والمنع. وقد أحدث هذا حيرة لدى كثيرين، نظراً لتقارب المدارس الفقهية في المجتمع ووضوح المسألة محل البحث.
ولا يقتصر هذا الخلاف على هذه القضية وإنما يمتد لقضايا اقتصادية أخرى مثل مسألة التورق المنظم والبيع بالتقسيط وغيرها. ومنشأ الخلاف ليس مرتبطاً بالصور والتطبيقات المتنوعة بقدر ما هو مرتبط بمنهج الحكم وعلى القضايا والحوادث والمستجدات الاقتصادية.
فهناك من ينظر إلى أصل القضية فمتى ما انطوت على أمر أو بند غير مقبول من الناحية الشرعية حتى لو لم يطبق أو ينفذ اتجه إلى المنع، منطلقاً في ذلك من كون إتمام هذه العملية يتضمن موافقة أطراف التعامل على جميع البنود وإقرارهم بصحتها. وفي المقابل هناك من يرى أن وجود الخلل لا يمنع من الإباحة طالما أمكنت معالجته أو تجنب تطبيقه من قبل أحد أطراف التعامل. وبناءً على هذا الرأي لا فرق بين الشركات في الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية، ولا فرق بين الشركات تحت التأسيس وتلك العاملة والتي تسعى لتحويل معاملاتها إلى معاملات مقبولة شرعاً، فالجميع سواء في الحكم.
وسبب آخر لهذا الاختلاف هو تعميم الأحكام الخاصة بحالات استثنائية أو فردية وإعطاؤها شكل الحكم العام الصالح لكل الحالات بينما لا يرى آخرون ذلك. فالتورق على سبيل المثال جائز لدى الفقهاء بشروط معينة وفي حالات معينة، لكن تطبيقات التورق المنظم المتبعة الآن في البنوك تختلف عن الصورة التي أقرها الفقهاء، ومن هنا اختلفت آراء المفتين المعاصرين في هذه المسألة. وربما أصبح الأمر أكثر سوءاً إذ ينشغل المفتي بالاسم والصورة العامة للمعاملة بدون النظر إلى حقيقتها وطبيعتها وكيفية إتمامها.
وكثيراً ما يغفل المفتون الآثار المترتبة على الفتاوى ويحصرون أنفسهم في إطار ضيق جداً لا يتعدى حدود الصورة محل البحث وربما حدود الشخص السائل، وينطلقون من ذلك ليعطوا حكماً عاماً لقضية تؤثر على حياة ملايين الناس بشكل مباشر أو غير مباشر. ولعل هذا أحد أسباب الاختلاف بين فقهاء الاقتصاديين واقتصاديي الفقهاء. فعلى سبيل المثال، لا يمكن عند مناقشة الحكم الشرعي للتورق المنظم أو البيع بالتقسيط إغفال أثرهما على متغيرات اقتصادية هامة مثل كمية النقود المتداولة في السوق وسرعة دورانها ومعدل التضخم والدخول الثابتة للأفراد والأسر والقيمة الحقيقية للثروات الشخصية وحجم الديون الاستهلاكية وتوزيع الثروات. إن القضايا والمتغيرات الاقتصادية وآثارها التبادلية بالغت التعقيد. وعند الحكم على جزئية معينة فإنه لا يمكن اجتزاؤها من إطارها العام ودراستها ومناقشتها بعيداً عن بيئتها ذلك أنها تؤثر وتتأثر بها ولا يمكن إغفال مآلات الأحكام ومايترتب عليها. ويرتبط بهذا أهمية التفرقة بين الفتيا في حالات خاصة وتلك التي تأخذ شكل التشريع أو التقنين.
|