* ابتسام بنت عبد الله البقمي:
بداية أود أن ألفت نظر القارئ الكريم أنه لابد أن يكون كتاب مقامات بديع الزمان الهمذاني أمامه ويقرأ المقامة البغدادية حتى يتبين معنى هذا التحليل البلاغي، الأمر الثاني هو أني اختصرت هذا التحليل على جزء من بداية المقام وإن كان ما عندي هو تحليل بلاغي كامل للمقامة البغدادية إلا أن كثرة المقالات والأقلام في هذه الصفحة تدعوني للاختصار بقدر المتاح.
معنى هذه المقامة
يظهر لي أن هذه المقامة نوع من المقامات الفكاهية، ولا أظنها فكاهة لأجل الفكاهة فقط لأنها تصور في نهايتها الحكمة المستفادة في بيتي شعر تفيد أن المرء لابد أن يستعمل شبابه وفتوته لنيل معالي الأمور لأنه لو لم يفعل فقد يأتي عليه حين من الدهر يعجز عن القيام بحاجاته التي منه إكرام ضيف،كما أن هذه المقامة تصور نقدا اجتماعيا لفئة من المتطفلة تتمثل في الراوي عيسى بن هشام الذي احتال على هذا المسكين أبي عبيد، وإنني ألمح في هذه المقامة شيء من خصائص القصة الحديثة تتمثل في وجود الحوار الذي نطق به عيسى بن هشام، والشخصيات، والمكان.
بلاغة السجع في هذه المقامة
بين الأزاد وبغداد سجع ترصيع وهو ما اتفقت فيه الفاصلتان في الوزن والتقفية، فهذه السجعة بليغة لأنها لها وقعها الموسيقي في السمع وغير ثقيلة على القلب لأن المعنى يتطلبها وليست متكلفة لأن القاري بحاجة إلى أن يعرف المكان الذي اشتهى فيه هذا التمر الجيد، وهذا قد يعود إلى أن بغداد تشتهر بنوع من التمر الجيد فهذه السجعة حسنة لفظا ومعنا والسر البلاغي لها إلا شارة إلى تميز بغداد بنوع من التمر الجيد وبفئة من الناس أراد الراوي عيسى بن هشام أو الهمذاني أن يوجه لها نقدا اجتماعيا من عدة نواح وهذا النقد يتمثل في أنها فئة بسيطة ساذجة ويمكن الاحتيال عليها بيسر وسهولة ومن ناحية أخرى أنها عاجزة عن القيام بحاجاتها وهذا السر يظهر في المقامة كلها، ويسجع بعدها بين عقد ونقد وهذا أيضا سجع ترصيع وهو بليغ لأنه لو قال فقط وليس معي نقد لم يظهر المعنى الذي أراده من ذكر كلمة عقد التي تشعر القارئ بأنه على استعداد تام وأخذ الحيطة والحذر في ذلك باتخاذ المال الكافي ونفي ذلك بقوله ليس معي التي لها بلاغتها أيضا التي تنفي عنه بالذات اتخاذ الاستعداد الكافي بالمال، إذن المعنى كان يتطلب هذه السجعة ولم يشعر القارئ أن فيها تكلف أو يظهر في المقطع التالي عدم حرص الهمذاني على السجع إذا لم يكن المعنى يتطلبه لأنه قال: (فخرجت انتهز محالة حتى احلني الكرخ) ثم يسجع في المقطعين التاليين ويقول: (فإذا أنا بسوادي يسوق بالجهد حماره، ويطرف بالعقد إزاره) فسجع بين حماره وإزاره أيضا سجع ترصيع له وقعه الموسيقي في الأسماع ولعل الدارس يتساءل هل السجعة إزاره يتطلبها المعنى؟، الذي يظهر لي نعم لأنه يصور رجلا ريفيا بسيطا يرفع طرف ثوبه عن الروث وغيره من مخلفات الحمار وغيره مما يوجد في طبيعة الريف وبيئته فهي تخدم المعنى المراد فمثل هذا الشخص الريفي يسهل الاحتيال عليه بدليل قوله بعدها (ظفرنا والله بصيد، وحياك الله أبا زيد) وهو سجع ترصيع بين زيد وصيد،ولكن ألا يمكن أن يستغني عن قول أبا زيد ويقول أي كلمة ليس فيها تكلف قد يقول القارئ هذه السجعة متكلفة لكن لو قال مثلا أبا عمر لم يكن هناك تناسق موسيقي يجذب الأسماع وبشدة إلى هذا الكلام وليس معنى ذلك أنني أقر التكلف أو أن يتبع المعنى اللفظ لكن هذه السجعة ليس فيها تكلفا نابيا وهي تخدم المعنى المراد من حيث إنها تجذب القارئ لمواصلة القراءة والمعنى لا يرفضها وليس هناك كبير فرق بين زيد وعمر مثلا، ثم يسجع سجعات متواطئة على حرف التاء وهي أقبلت، ونزلت، ووافيت، والبيت، وهي السجع المطرف الذي اختلفت فيه الفواصل في الوزن ومع ذلك فإن التقفية أبقت لها وقعها الموسيقي في السمع وهذه السجعات بليغة لأن المعنى يتطلبه طلبا لأن هذه السجعات تصور تمكن عيسى بن هشام من الحيلة بمعرفة أحوال الرجل وحرصه على استضافته وبعد؛ أكتفي بهذا القدر من التحليل البلاغي للمقامة البغدادية والتحليل أطول من ذلك ولعل فيما ذكر ما يدل على ما لا يذكر.
أهم نتائج التحليل الباغي للمقامة البغدادية للهمذاني
1- أن السجع غير متكلف ووفق الطبع
2- أنه كان سجعا بليغا حسنا، يتبع فيه اللفظ المعنى وليس العكس
3- لم تكن المقامة البغدادية في كل عباراتها مسجوعة وهذا يدل على أن الغرض الرئيس ليس إظهار البراعة الكلامية
في الختام: أتمنى أن أكون وفقت في هذا المبحث الصغير وتقبلوا خالص تحياتي
للتواصل مع الكاتبة
ص.ب 5256، جدة 21422 |