أصبح العالم اليوم متغيراً نتيجة للتقدم العلمي الهائل الذي صاحب هذا التقدم ثورة ضخمة في المعلومات والتكنولوجيا والمعرفة مما أجبر الكثير من دول العالم على التغيير في مجالات كثيرة.
ومن هذه الدول العالمية دول (الوطن العربي) التي أصبحت هذه الدول تعيش في أزمة فكرية وحضارية وثقافية جعلتها تتبع المشروعات الغربية التي أفرزتها (العولمة) وفرضت هذه الأزمة فوضى فكرية وحضارية وثقافية في صميم الشعوب العربية التي ولدت الكثير من مواقف القبول والرفض والحياد.
بعض الشعوب العربية استخدمت لغة الحياد لتعيش حالة من الهدوء الفكري والثقافي بعيداً عن صيحات هذا العصر عصر (العولمة)، ولكن أصبح من ينهج لغة الحياد في هذا العصر لا تجدي معه نفعاً لأن هذا العصر استنفر جميع إمكاناته للضغط على المجتمعات العربية من أجل التغيير الجذري في جميع جوانب الحياة، ولهذا هل دول (الوطن العربي) تمتلك 30% من إمكانات هذا العصر عصر (العولمة)؟
إذا كان الجواب بنعم فإنه يتبقى على هذه الدول التركيز على توفير النسبة التي تحتاج إليها لمجاراة هذا العصر الجديد عصر (العولمة)، منذ أن بدأ هذا العصر الجديد (عصر العولمة) باختراق القواعد الفكرية والثقافية والحضارية والحياتية في الوطن العربي أصبح الإنسان ليس متناقضاً مع الآخرين فقط بل كون هذا العصر في داخل الإنسان العربي تناقضاً ذاتياً ونفسياً إلى أبعد الحدود وبكل المقاييس والمعايير الذاتية والنفسية التي يستخدمها علماء النفس لقياس هذا التناقض الذي أصاب المواطن العربي نتيجة لتغير الأسلوب العام للحياة والتحولات الفكرية والثقافية التي أصابت المواطن العربي وجعلت من هذا المواطن العربي يبين للآخرين قيماً وسلوكيات شخصية معينة ويدافع عن هذه القيم في نفس الوقت بينما في داخل نفسه هناك تناقض وهجوم على هذه القيم والسلوكيات.
ما الذي جعل المواطن العربي يعيش في هذا التناقض؟
هو من وجهة نظري: انعدام فن الحوار الراقي والبناء للتعبير عما يدور في داخل المواطن العربي نتيجة لما فرضه عصر العولمة من ضغط نفسي هائل على الإنسان العربي بشكلٍ خاص.
- وكذلك بعض الأنظمة الديكتاتورية في بعض الدول العربية التي ساعدت على فرض أسلوب القمع والتخويف وتهميش رأي المواطن العربي في جميع مجالات الحياة.
- غياب دور المؤسسات المدنية في الوطن العربي عن القيام بدورها وواجباتها على أكمل وجه وخصوصاً المؤسسات الخاصة برعاية الأسرة والطفولة، ورعاية الشباب والمؤسسات الثقافية التي منوط بها الحفاظ على الهوية الثقافية واللغة العربية والفكر العربي الذي كان لها دور بارز ومشهود في التأثير على ثقافات الآخرين وهو يعيش هجوماً مؤثراً في هذا العصر عصر (العولمة).
ولهذا يسعى عصر العولمة إلى تحقيق طموحاته في الوطن العربي بشكلٍ خاص لما يمتلكه الوطن العربي من ثروات هائلة وموقع استراتيجي مميز وهو يجبر الوطن العربي على الانضمام إلى منظومته على حساب القيم الثقافية والفكرية والأخلاقية من خلال تحقيق هذه الطموحات في وطننا العربي التي منها:
- توسيع دائرة الانفجار الإعلامي طموح العولمة الأول:
مع تطور وسائل الإعلام العالمية الذي صاحب هذا العصر عصر (العولمة) لتُجند الإعلام ووسائله كطموح أول ومهم للغاية للدخول من خلاله إلى صميم المجتمعات العربية، وهذا بالفعل جعل الوطن العربي يسعى إلى التغيير في الكثير من الأنساق سوء النسق التعليمي أو الفكري أو الثقافي أو الحياتي، ففي النسق التعليمي أحدث الإعلام ضجة إعلامية هائلة حول الكثير من محتوى المناهج التعليمية مما أجبر الكثير من المجتمعات العربية على سرعة التغيير في المناهج التعليمية باعتبار أن بعض هذه المناهج تدعو إلى الغلو والتطرف.
وفي الجانب الحياتي أصبح المواطن العربي يعيش حالة من الاستهلاك الهائل للسلع نتيجة لإفرازات العولمة الحياتية في اقتناء كل ماهو جديد من آخر الصيحات العالمية في التكنولوجيا ووسائل الاتصال والملابس والإكسسوارات النسائية التي زادت من أعباء الأسرة العربية اقتصادياً.
- إدخال الشركات متعددة الجنسيات إلى الوطن العربي:
وهذا جزء مهم في تخصيص القطاعات الحيوية في هذه الدول لصالح الشركات متعددة الجنسيات بناءً على اتفاقيات استثمارية في قطاع مهم للمواطن العربي سواء في قطاع الاتصالات أو المياه أو الكهرباء أوغيره والذي يتكبد المواطن العربي الأموال الطائلة لدفع هذه الفاتورة إلى هذه الشركات، وهذا ما اتضح أمام المستثمرين أن هناك مميزات ربحية هائلة يحصلون عليها من خلال عولمة مراكز الإنتاج والتوزيع وليس هذا فقط بل السعي إلى عولمة الشركات العربية، وهذا أدى إلى ظهور شركات عالمية كبرى تعمل على مد أنشطتها إلى خارج بلادها.
وتستحوذ كلٌ من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليابان وألمانيا وبريطانيا على 172 شركة من أكبر مئتي شركة عالمية وهي مسؤولة عن ثلث الناتج العالمي من السلع والخدمات التي تخص الإنسان بشكلٍ مباشر.
- فرض عقوبات اقتصادية:
من أبرز ما تطمح إليه العولمة هو فرض عقوبات اقتصادية على الدول التي تقف أمامها ولا تنصاع لأوامر العولمة الاقتصادية، وتستخدم العولمة المنظمات والهيئات الدولية لتحقيق ذلك من خلال دول تكون لها عضوية فعّالة في هذه المنظمات والهيئات وإذا لم يتحقق ذلك تنفرد دولة معينة في فرض هذه العقوبات، ولذلك تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية من الدول التي تلجأ إلى فرض هذه العقوبات الاقتصادية بشكلٍ كبير باعتبار أنها من الدول المؤثرة اليوم في الاقتصاد العالمي، وقد وضح ذلك رئيس الجمعية الصناعية الوطنية في الولايات المتحدة الأمريكية أن هذه الفكرة تشبه تماماً ما يصدر عن شخص تنتابه نوبة غضب عارمة وأنه على أمريكا أن تفعل أي شيء ولو أضر بها وذلك لتحقيق مصالح دعاة العولمة.
- العدوان على الهوية الثقافية:
والهوية هي (مجموعة من الخصائص الثقافية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية التي يختلف بها شعب عن آخر).
عندما تفرض علينا العولمة حياة راقية مليئة بكل الوسائل العصرية التي أفرزتها، وذلك على حساب الهوية الثقافية من خلال ذلك الوهم الذي يعيشه الكثير من البشر ترك هؤلاء الكثير من خصائص هذه الهوية الثقافية التي ينتمي إليها ولهذا بمجاراتنا لجديد العولمة من مطاعم ومحلات وأسماء وأفلام وأنماط سلوكية (عولمية) فرضنا على أنفسنا من خلال ذلك أن نترك هويتنا الثقافية ونعيش بهوية الغير وبنموذجهم وثقافتهم وأسلوبهم وأصبحنا أشبه بالطير الجارح الذي يقلد الطير الآخر في كل شيء.
- كسر الحواجز الجمركية:
تسعى العولمة إلى كسر الحواجز الجمركية في كثيرٍ من الدول العالمية ذات التأثير الاقتصادي والتجاري والدول العربية من أهم هذه الدول وذلك لموقعها الاستراتيجي المميز وارتفاع استهلاك الشعوب العربية وربط هذا الاستهلاك بثقافة هذه الشعوب، ولهذا فرضت العولمة إعادة هيكلية للنظام الجمركي العربي يتمشى مع ميولها ورغباتها من خلال خفض الرسوم الجمركية على منتجات الشركات العالمية وإيجاد مرونة في الأنظمة الجمركية بشكلٍ كبير.
- تقليص عدد الجيوش:
من خلال الثورة الهائلة في التقنية العسكرية والنووية وأسلحة الدمار الشامل اتجهت كثير من دول العالم إلى السعي لامتلاك هذه التقنية العسكرية وخصوصاً في المجال النووي مما حدا الكثير من الدول إلى تقليص جيوشها وفرض نظام جديد للبرنامج العسكري الخاص بها، وهذا يؤثر على الإنسان في تلك الدول سواءً في المدى البعيد أو القريب وسوف يبقى تأثيره يشكل هاجس قلق لكثيرٍ من الدول وخصوصاً الدول العربية التي تواجه هجوماً من قِبل الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك للحيلولة دون امتلاك أي دول في العالم العربي للسلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل كما حدث ذلك في العراق وليبيا عندما تخلت الأخيرة عن أسلحة الدمار الشامل.
إن بعض طموحات العولمة التي دخلت إلى حيز التحقيق أثرت بشكلٍ مباشر في حياة الوطن العربي فكيف حال الوطن العربي وشعوبه إذا تحققت جميع طموحات (العولمة) التي بعضها لم يخرج على السطح وإذا خرجت هذه الطموحات الخفية سوف تقلب حياة الشعوب العربية رأساً على عقب، ولهذا أصبح لزاماً على دول الوطن العربي أجمع أن تطور من إمكاناتها وقدراتها الثقافية والفكرية والتربوية وكذلك العسكرية ولا تتقوقع على نفسها بل تستنفر جميع هذه الإمكانات التي سوف تؤهلها لمجاراة هذا العصر عصر (العولمة) بشكلٍ لا يؤثر على حياة الشعوب العربية كون أن هذا العصر لا يحمل تغيرات ايديولوجية أو ثقافية فقط كما يظن البعض بل تغيرات في مجالات شتى.
|