Saturday 5th August,200612364العددالسبت 11 ,رجب 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"الثقافية"

المأساة المأساة
أ.د عبد الكريم محمد الأسعد

تكمن مأساتنا في العالم العربي المعاصر في أنّ الواقع يتمّ تزويره على أعيننا، فكيف سيكون الحال بعد أن يموت هذا الجيل، ويبقى التاريخ المزوّر تتلقفه الأجيال القادمة وفيها بالطبع ما يكفيها من مواكب المنافقين والمنتفعين الجدد؟!
ستتغنى الأجيال القادمة، كما تغنينا وكما تغنّى آباؤنا وأجدادنا من قبل، بشعرنا الموروث الذي يمثّل مزاعمنا العريضة على نحو مخجل مثل البيت الآتي من قصيدة مشهورة:


ملأنا البرّ حتى ضاق عنّا
وماء البحر نملؤه سفينا

وهذا بالطبع كذب واضح، إذ لو كان الشاعر صادقاً لعَنَى ذلك أن قواته البرية المحشورة في رقعة صغيرة من الجزيرة العربية أكبر من قوات جميع دول العالم الحالية الموزّعة على قواعدها المتعددة في مختلف أنحاء الدنيا، ولو كان الشاعر صادقاً لكانت مصانع سفنه تصنع كلّ يوم بارجة أو غواصة أو مدمّرة تطلقها إلى البحر، في حين تصنع الواحدة من هذه السفن الحربية اليوم مصانع ضخمة مليئة بالمهندسين والخبراء والفنيين والعمال المهرة في أكثر من سنة، هذا بالإضافة إلى أنه لم يكن حول شاعرنا ولا بالقرب منه بحر ولا نهر ولا جدول ولا ما يحزنون.
لقد قُبلت هذه المزاعم ورُوّج لها حين نظمت شعراً وكتبت نثراً وقبلت خطابه، واستمر قبولها والترويج لها إلى جيلنا الحالي حيث ما زالت هذه القصيدة وأمثالها تلقن لطلابنا المساكين في المدارس والجامعات مع شروح (مماثلة) ضافية عليها، وهذا يعني أننا سنجد المروّجين في كل جيل لكل باطل يلبسونه لباس الحق، ولكل كذب يسربلونه بحلّة الصدق حتى ليبدو أنهما الحق والصدق بعينهما، وما هما كذلك، ولا يستبعد أن تقرأ أجيالنا القادمة قصائد لبعض شعرائنا المعاصرين تمجد حاكماً (ثورياً) وتصفه بأنه عبقري في حين أنه حمار بن حمار، وتنعته بأنه العادل وهو الظالم، وبأنه الرحيم وهو السّفّاح، وبأنّه الحليم وهو الغضوب، وبأنه الحكيم وهو الغبي، وبأنه العليم وهو أكبر الجهّال، وبأنه الشجاع وهو (سيّد) الجبناء، وبأنه المصلح وهو رأس المفسدين، وبأنه العفيف وهو الخسيس، وبأنه الأمين وهو اللقى (السفّيف)، وبأنه المستقيم وهو لم يسمع في حياته بهذه الكلمة، وبأنه نظيف اليد وهو صاحب أوسخ يدين وهكذا، إنّ أكثر تاريخنا الأدبي وغير الأدبي القريب والبعيد مزوّر، وهو يعبر بدقة عن طبيعة راسخة في أعماق نفوسنا مثقفين وأنصاف مثقفين وغير مثقفين اعتادت على التعلق بالأوهام، وعلى الترويج للأكاذيب، وعلى اعتماد المبالغات والركون إليها، وعلى تصوّرها جميعاً حقائق صادقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهذا مرض عضال لا يبدو أن الشفاء منه مأمول.
ولعل موقف الدكتور طه حسين، رحمه الله، في مطلع حياته الأدبية من الشعر الجاهلي كان ومضة ضوء في ظلام الفكر السائد أفسحت المجال للتفكير الحرّ، ولا يعيبها أنها انطفأت فيما بعد في عصور الانحطاط العربي والانحلال الثوري التقدمي اللذين ترزح تحتهما أكثر الشعوب العربية اليوم.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved