Sunday 30th July,200612358العددالأحد 5 ,رجب 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"زمان الجزيرة"

الأحد 19 ذو القعدة 1392هـ الموافق 24 ديسمبر 1973م - العدد (484) الأحد 19 ذو القعدة 1392هـ الموافق 24 ديسمبر 1973م - العدد (484)
الفراق..!!

* قال الوالد مخاطباً ولده يوماً: إنّنا إن شاء الله يا أبنائي سنقوم بزيارة إلى أعمامكم في الشمال بالعطلة الصيفية القادمة .. وذلك رغم كل صعوبة ورغم كل المسافات الطويلة التي تفصل فيما بيننا وبينهم .. حيث إنه لم يعد في وسعنا الصبر عنهم أكثر.
* ولم ينته الوالد من كلمته هذه حتى هلل الجميع استبشاراً وحبورا بهذا الخبر السعيد الذي طالما تمنوه .. ويعقب أحد الأطفال بعفوية هل سنذهب كلنا يا أبي؟ هل ستذهب أمي وأخواتي .. معنا؟ ويجيب الوالد على تساؤلات ابنه الصغير بعطف: نعم سنذهب كلنا يا بني رغم كثرتنا! ويترقب الأولاد والعائلة انتهاء الدراسة بولع وشفقة تحسباً لتلك الزيارة الموعودة .. وتبدأ العطلة الصيفية .. وترحل العائلة من قريتها بالجنوب قاصدة مقصداً من خير وأنبل المقاصد في نفوسها .. إنها زيارة الأهل والأقارب والأحباب .. إنها التقاء القلوب التي طالما فرقها الزمان .. وتسير القافلة تحيطها عناية الله .. تقطع الفيافي والقفار والقرى والمدن من مملكتنا المترامية الأطراف.
وفي صباح ذلك اليوم المشرق حطت القافلة بدار الأحباب بعد مسير جاوز الثلاثة أيام وبعد عناء ومشقة من طول السفر .. ولكن سرعان ما تبدّدت تلك المشقة وذلك العناء بالتقاء القلوب الصافية ويجد كل من الطرفين ضالته الغالية.
كان الاستقبال حاراً ومعبراً عن ما يختلج في النفوس من المحبة .. لقد جمع الله الشتات (لا غريب سوى غريب اللحد والكفن).
وتعلو البهجة كل الوجوه مستبشرة فرحة بهذا المقدم الميمون ويتبادل الجميع كلمات التحايا المعبرة عن ما يخلج في النفوس:


على الطائر الميمون يا خير قادم
وأهلاً وسهلاً بالعلا والمكارم

.. إيه ما أحلى اللقاء بعد الغياب الطويل .. وما أوحش كلمتي الفراق والسفر في النفوس اليوم.
كان الوقت يسير مسرعاً فوق العادة .. إنها طبيعة أيام الفرح والسرور تكون قصيرة جداً إذا قيست بأيام الركود وأيام الأحزان .. لقد بدأت نهاية الزيارة تلوح في الأفق.
إيه ايتها الدنيا فهذا طبعك تفرقين الأحباب .. ويتأوه أحد الصبية كأنما أسر إلى نفسه .. آه في نفسي .. يا ليت ربي لم يخلق الفراق أبداً .. ما اقبحه إنه لئيم الطبع حتى أن اسمه المشؤوم بات يوحشني كثيراً.
ويترجى الأقارب أقاربهم الزائرين تمديد تلك الزيارة الكريمة ولو أسبوعا واحداً .. ويلح الأولاد على أبيهم بالموافقة على ذلك .. ويحاول الأب إقناع أبنائه بقوله: إنه مهما مدد من الوقت فإنه سينقضي وأنه لا بد من ساعة الفراق .. ولكن إقناعه هذا لم يجد صدى في آذانهم .. مما جعله يوافق على مطلبهم .. رغم ما لديه من أعمال وارتباطات كثيرة في بلدته لا تساعده على تمديد الزيارة.
وتقضي العائلتان والإخوان مع إخوانهم هذا الأسبوع الأخير على وجل وعدم اطمئنان من تحري ساعة البعاد والفراق .. ساعة الرحيل.
وفي الليلة الأخيرة يمسي الجميع على أحر من الجمر .. يكاد الواحد منهم عندما يشعر من غفوته أن يختنق حزناً .. ويقرب الوقت المحتوم .. وفي الصباح الباكر لذلك اليوم الذي تزمع فيه العائلة على الرحيل والرجوع إلى بلدتها تقرب السيارة من باب البيت لتنقل العائلة الزائرة إلى حيث أتت .. إلى قريتها.
ويعلو الوجوم كل الوجوه وتخرس الألسن .. بل إن العيون هي الوحيدة التي تنطق وتعبر عن ما يغلي في الصدر من لوعة وأسى وذلك من خلال دمعها المدرار .. دمعها الهتون .. ويتعانق الجميع عناقاً أخوياً صادقاً .. وتطبع تلك القبلات الساخنة على الوجوه في صمت رهيب ولم يستطع أحد منهم أن ينطق حتى بكلمة (في أمان الله) التي يجلها الصغير والكبير والتي قد استحقرتها كل النفوس .. كأن الكبار يحاولون إخفاء حزنهم عن الصغار والنساء ولكن دون جدوى لقد انفجر الجميع بالبكاء!..
وتسير السيارة رويدا رويداً وكأنما هي الأخرى يعز عليها الفراق .. وتبادل الجميع التلويح بالأيدي تعبيرا عن الوداع الحار وعن المودة .. ولا غرو في ذلك كله فقد بخل الزمان أن يجود بمثل تلك الزيارة السعيدة التي طالما تمناها الجميع بوله وشفقة منقطعي النظير والمثيل .. في تلك اللحظة الحرجة يشعر المودعون وهم ينظرون إلى السيارة تبتعد شيئاً فشيئاً إلى أن تتوارى وتختفي عن الأنظار وكأنما خطفت قلوبهم من صدورهم .. أما العائلة الأخرى فكأنما طارت قلوبهم من (حجورها) حتى أصبح أفرادها غير قادرين على اجترار أنفاسهم.
وفي منتصف الطريق يحط الرحل للراحة والتظلُّل بظل شجرة وارفة الظلال لعلها أن ترتد أنفاسها .. أن يرتد أيها طرفها .. كانت الشمس آنذاك ترسل أشعة عمودية حارة جداً .. ويخلو كبير الأولاد إلى نفسه تحت ظل شجرة أخرى بعيدا عن أهله .. ليناجي أبناء عمه .. ليناجي اخوته الذين قد خلفهم ورائه .. وكان قد أخبر أهله أنه سينام وطلب منهم أن يكفوا عنه .. ويبدأ متمثلا بقول الشاعر:


إن يوم الفراق أفظع يوم
ليتني مت قبل يوم الفراق

الآن جودي أيها العيون بدمعك المنهمر .. إنني لم استطع أن اعبر عما في نفسي خشية على أولئك النساء والأطفال الذين قد شق عليهم الفراق مثلي فخشيت أن تنفطر قلوبهم من شدة الحزن .. يحفظكم الله يا أبناء عمي أنتم وأولادكم وأسرتكم الكريمة جمعاء.
إنك أيها الفراق قد جنيت عليّ حقاً لأصبح محروما في هذه الحياة حتى من أقرب قريب .. لو لم تكن أنت قدراً من أقدار الله لسببتك سباً شديداً ولحاولت الانتقام .. ولكن ما دام الأمر كذلك فعليّ أن أرضى وأن أسلم وأن أعيذ بالله من شر هذا الحزن.
كان بعض العائلة قد أخذه النوم والنعاس من شدة النصب والتعب. وأخيراً يستيقظ الجميع على همسات تردد: لقد فقدتم أحد أبنائكم .. لقد فقدتم أحد أولادكم الصغار .. ولكن لا ضير عليكم فربما بقي عند أعمامه .. أخفوه عنكم ليشد قلوبهم التي كادت أن تطير .. نعم أو أولادهم الصغار تشبثوا به كرهينة .. مع ان هذا الاحتمال لا يعفيكم أبداً من التفريط.
وبعد .. تودع العائلة هذا المكان الذي فقدت فيه ابنها وهي تنثر الدمع .. لتواصل رحلتها الشاقة رغم ما حدث.
علي محمد القويزاني
الرياض

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved