يبدو أننا اعتدنا مفردة السفر، وتعودنا أن نحزم حقائبنا ونرحل لننعم بربوع أوطان أخرى كستها مساحيق الوجه، وتلونت بشرتها بألوان صناعية لا روح فيها. تعودنا أن نهجر الجمال ونسافر باحثين له عن شبيه في بلاد الجوار، وربما في أوطان سكنت وراء البحار.
وعلى رغم امتلاكنا بحق لأرقى مقومات الجمال، واستحواذنا على النصيب الأكبر من بسمات الطبيعة، إلا أننا ما زلنا لا نرى قيمة ما في أيدينا، ونبحث عما امتلكته أيادي الغير من رخيص الجمال. ولأنني امرأة محبة للجوف، وأراها تمثل داخلي تاريخاً ينبض كأنفاس الحياة؛ أتعجب وقتما أسمع قصصاً وروايات عن أناس يقطعون من أرزاق عامهم كي يلحقوا بطائرة للسفر إلى بلاد الغرب.
أتعجب وأتمنى لو يعيد هؤلاء قراءة منطقتهم مرة أخرى، وينظرون إليها بعيون واسعة الحدقات، يومها سيكون لهم بحق كلمة أخرى وموقف آخر جديد.
(الجوف حلوة).. نعم، صدق من قالها ومن رسخها لتكون شعاراً لمهرجانات منطقتنا. هي حلوة بطبيعتها وآثارها.. حلوة بطباع أهلها وقلوبهم المكسوة بمسحة الصفاء الجميل.. الجوف ستبقى الحكاية التي لا نملُّ سماعها مهما أطربتنا البقاع والبلدان.
من باب الآثار أبدأ الحكاية، وما أجمل أن تكون البداية مع تاريخنا العامر. فالجوف أقدم مناطق الجزيرة العربية على الإطلاق، منطقة تعاقبت عليها الحضارات وكأنما وجدت على ترابها الحضن والسر الدفين. الجميل أن كل حضارة عبرت تركت على هذه الأرض بصمات لا ينساها الزمن، فكلما أردنا أن نقرأ وجدنا أعماراً تحملها الأحجار وعصوراً محفورة على النقوش.
الجوف أرض موغلة في القدم، تحمل داخلها أثراً غالياً، ولكن للأسف أرى أغلب الأجيال عازفة عن قراءة فصل التاريخ الغالي وسطوره المشرقة على الدوام.
وكما أتأسف على البعض يحق لي أن أزهو بآخرين ممن رأوا أن الحياة مزيج بين حاصر وماضٍ، ففتحوا متاحف في مناطقهم وعمروها بالأثر القديم، واجتهدوا في قراءة عمرها حتى صارت اليوم مزاراً يأتيه الناس من كل حدب وصوب، ولكن يبقى بحق أن نشير إليهم بإصبع الزهو ونقول: هؤلاء هم القابضون على تاريخ الجوف والرافضون تركه. نعم، أنا مؤمنة بأن أحكي عن منطقة حلوة وغالية على القلوب.
في الجوف تمتد بقعة الأرض الخضراء؛ لأن تربتها عاشقة لهذا اللون، كما يعلو نخيلها عالياً وكأنه يأبى أن يماثله شموخ رفعةً وسمواً. هذه الساحات الممتدة تكسب الجوف جمالاً متفرداً، وأحسب أنه ليس أجمل على العيون من هذا اللون الذي يداعبها. الجوف أمامكم اليوم لوحة مرسومة، وكلي قناعة أن أعظم الفنانين سيرفع راية استسلامه أمام لوحة هكذا يكون جمالها. الجوف حلوة بعطية الطبيعة، فلا تتعجل وتبحث لها عن شبيه؛ فهي في عيوننا بقعة بلا شبيه.
ماذا ينقصنا؟
آثار وتاريخ، ومن قبلهم الوفاق مع الطبيعة.. هذه هي الجوف، فلماذا نسافر ونحن تاركون الجمال لشطر الجمال؟! لماذا ننفق أموالنا رخيصة وننثرها كي نشتري سحراً مكسواً بمساحيق اللون؟! إنني أنتظر من كل أبناء وبنات الجوف أن يعيدوا النظر في منطقتهم ليتأكد لهم أنها حلوة بحق؛ شعاراً ومهرجاناً وصفحةً في كتاب وطن غالٍ.
|