إذا أردنا أن نناقش ظاهرة العولمة التي نعيشها اليوم يجب أن نعلم أن هذه الظاهرة ظاهرة قديمة، فعلى مر التاريخ قامت بعض القوى المؤثرة بمحاولة تنميط العالم الذي تعيش فيه، أو إذا أردنا أن نستخدم مصطلحاً حديثاً قلنا: حاولت هذه القوى استنساخ العالم المحيط بها على غرار حضاراتها. وهذه النزعة الاستعمارية كانت ولا تزال في غالب أحوالها مرتبطة بالحضارة الغربية (البيضاء).
وفي هذا النطاق يمكن فهم أول هجمة غربية على الشرق، وهي الهجمة اليونانية بقيادة (الإسكندر الأكبر)، فقد كان الأخير من أكبر المبشِّرين بالثقافة اليونانية.
وجاءت بعد الهجمة اليونانية الهجمة الغربية الأشرس، وهي الهجمة الرومانية. هذه الهجمة كانت مدعومة بآلة عسكرية متفوقة، وبفكر فلسفي يرى أن روما عاصمة العالم، وأن جميع الشعوب عليها الذوبان في الحضارة الرومانية (رومنة العالم). وتجسِّد أفكار هذه العولمة مقولة: (كل الطرق تؤدي إلى روما). وكان من الممكن أن (ينتهي) التاريخ في روما لولا ظهور الإسلام الذي نجح في القضاء على الهيمنة الرومانية.
وفي العصر الحديث، حاولت القوى الغربية تصدير حضاراتها للخارج من خلال الاستعمار الغربي، ولكن لم يكن هناك احتمالية لنهاية التاريخ؛ نظراً إلى تعدُّد القوى المتنافسة. هذه التعددية جعلت من المتعذِّر خلق نموذج أحادي للعالم.
ومع بروز الحضارة الأمريكية حاولت هي الأخرى (أمركة) العالم، إلا أن مشروعها تعثَّر بسبب وجود الاتحاد السوفيتي.
ومع انهيار الأخير، ومعه المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، حققت العولمة الأمريكية نجاحاً كبيراً قاد المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما إلى التنبؤ بنهاية التاريخ. ففوكوياما يرى أن سيطرة الولايات المتحدة على المسرح العالمي يعني انتشار العدل والسلام وقيم الحرية التي يراها مرتبطة بالحضارة الأمريكية، وهذا يعني - حسب رأيه - قيام مجتمع عالمي جديد ونهاية التاريخ؛ (أي صراع الأيديولوجيات).
ولقد أحدث كتاب فوكوياما عن نهاية التاريخ الكثير من الجدل، لكن ما يخفى على البعض هو أن فوكوياما هنا لم يأتِ بجديد؛ فقد سبقه على سبيل المثال المؤرخ الروماني بلني الذي يرى أن التاريخ سينتهي في روما، والمفكر هيغل الذي كان يرى أن التاريخ سينتهي في بروسيا.
على أية حال، ما نراه اليوم من توترات عالمية تؤكد أن العالم لا يسير في الاتجاه الذي رسمه فوكوياما، كما أني لا أتوقع أن التاريخ - حسب تعريف فوكوياما - انتهى، بل قد يكون العكس، فنحن متجهون إلى بداية حقبة تاريخية جديدة، قد يتوقف التاريخ ردهة من الزمن في ظل الهيمنة الأمريكية، ولكن بمجرد تصدُّع البنيان الأمريكي ستظهر قوة عالمية جديدة وعولمة جديدة. فعلى ما يبدو أن المفكر الأمريكي الكبير لا يمثل حالة استثنائية عن الأمريكيين فيما يخصُّ (أمية التاريخ). ففلاسفة الرومان على سبيل المثال كانوا يدَّعون الأزلية لروما، كما يفعل الأمريكان بخصوص أمريكا اليوم، ولكن لا عمّرت روما ولن تعمّر روما هذا العصر.
|