وقد أعجبتني جملة المؤلف على ما يُسمَّى بقصيدة (النثر)؛ لأنها في العصر الراهن قد انحدرت إلى مستوى الألغاز، بل إلى مستوى الألاعيب البهلوانية، ولكني بالرجوع إلى تاريخ القصيدة النثرية أرى أنها في عهدها الأول، في أوائل القرن العشرين، كانت تنبض بالأحاسيس وتتدفق بالشعور، فهي جديرة بأن تسمى بالشعر المنثور كما كانت تسمى إذ ذاك، ومن أمثلتها ما نشره جبران خليل جبران وأمين الريحاني الذي ذكر المؤلف اسمه في معرض الإنكار، فهذا النوع من الإبداع الفني صادف قبولاً لدى الشعراء؛ لأن من كتبوه أدباء أصلاء.. وأذكر أن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، وهو المدافع الأول عن التراث العربي في هذا العصر، قد ارتضى هذا اللون ونشر منه قصائد بلغت حد الروعة، ويضيق المجال عن الاستشهاد بما قال، ولكني أذكر مقطوعة من قصيدته (لحوم البحر)، ويعني بها اللاتي تسبحن في البحر عاريات أيام المصيف بالإسكندرية وغيرها، وفيها يقول، وهي عن (وحي القلم، ج1، ص 258):
يا لحوم البحر! جزار سلخك من ثيابك..
جزار لا يذبح بألم، ولكن... بلذة
ولا يحز بالسكين، ولكن يحز بالعاطفة...
إلى الهجاء يا أبطال معركة الرجال والنساء
فهنا تلتحم نواميس الطبيعة ونواميس الأخلاق
للطبيعة أسلحة العري، والمخالطة، والنظر، والأنس والتضاحك، ونزوع المعنى إلى المعنى
وللأخلاق المهزومة سلاح من الدين وقد صدئ، وسلاح من الحياء! مكسور
يا لحوم البحر، سلخك من ثيابك جزار..
ولن تغني هذه المعاني في قصيدة ذات وزن وقافية، فلن تزيد في تأثيرها عن قصيدة المنثور.
* أما قصيدة الشعر المنثور هذه الأيام فعجيبة الأعاجيب، وغريبة الغرائب.. والمدهش أنها كثيراً ما تلجأ إلى التقليد المنكوس، فتنقل عن الغرب تشبيهاته، وتتحدث عن الصلب والفداء (وخمر السيح) كما يتحدث الغرب تماماً! والسؤال الوارد في هذا المجال: لماذا ينكرون على شاعر بدوي، مثل الشيخ محمد عبد المطلب رحمه الله، أن يتحدث في شعره عن الأماكن المحبوبة في جزيرة العرب ويقولون: إنه مقلِّد ينقل من محفوظه دون إحساسه، ثم تنقلون أنتم في أشعاركم اصطلاحات الغرب ورسوم الديانة المسيحية نقلاً حرفياً، وتعتبرون أنفسكم مجددين؟! إن أمثال محمد عبد المطلب حين يتحدثون عن نجد والعقيق وسلع يتحدثون عن أماكن يحبونها ويشتاقون رؤيتها، أما أنتم فتهرفون بما لا تشعرون.
* تابعت أبواب الكتاب وفصوله، وقد زاحمت خواطري نحو كل ما قرأت، ولو أردت التعقيب بكل ما جاش في نفسي لاسودَّت صفحات كثيرة، ولكني لا أستطيع أن أنقل شعوري الدافق بالإعجاب نحو الباب الأخير عامة، والفصل الذي كتبه تحت عنوان: (ما هو الأدب الشعبي؟)؛ حيث إنه في نقد الاتجاه الجارف نحو هذا الأدب، وقد مهَّد لحديثه ببحث علمي يتضمن أقوال الباحثين في هذا الاتجاه دون أن يتحيف آراءهم، بل عرضها عرضاً دقيقاً محايداً، ليؤكد بعد ذلك في ص 327: (كما أني لست مع ولا ضد هذا الشعر العامي، بل كانت لي فيه مساهمات على قدر الحال، ولكني كنت مع الجيد أيما كان، والأهم لديَّ هو الجودة، فهل جودة هذه العاميات قد فرضت نفسها عند المثقفين، أم أن الظروف والمحاباة هي التي تمثل هذه الظاهرة وتسويقها؟).
|