Monday 24th July,200612352العددالأثنين 28 ,جمادى الثانية 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

الرئة الثالثة الرئة الثالثة
(واحد - سبعة): اليوم الموعود!
عبد الرحمن بن محمد السدحان

ما من موظَّفٍ حكومي وُلدَ قبل (ولادة) شهادة الميلاد، وتبلغ خدمتُه الآن ثلاثين عاماً أو تزيد، إلا ويتلبَّسه هاجس عجيب تختزله كلمتا: (واحد - سبعة)، وهو موعد (عُرفيّ) لمن يدركه (الأجلُ الوظيفي) المقنّن بستين عاماً، وليس لديه (شهادةُ ميلاد) معتمدة يكون لتقاعده بموجبها موعد آخر!
**
* أما (واحد - سبعة) فهو يوم (المنون) عند بعض الموظفين، أو يومُ (العتق) لدى بعضهم الآخر، وفي كلا الحالين لا يكاد هذا الموعد يغادر ذهن الموظف.. كلّما أصبح أو أمسى، إمّا رغباً وإما رهباًّ يتابع (نازلته) أو (فرجه) عبر التقويم المثبت على مكتبه أو حائط منزله، أو على شاشة هاتفه النقّال إن وُجد!
**
* وفي هذا السياق تُروى القصصُ والنوادرُ والطرائفُ عما يحلُّ ببعض الموظفين حين يُحال أحدهم إلى التقاعد ليغدو (مأتماً) لدى واحدٍ، و(موسم فرح) لدى آخر، ولكل منهما أسبابه ومسوغاته التي يتعامل بموجبها مع هذا الحدث إما فرحاً وإما ترحاً!
**
* لكنّ ما يُروى من (طرائف) يتناول في الغالب الشريحة (المنكوبة) بالتقاعد، و(التحولات) العجيبة التي تطرأ على سلوكيات بعض أفرادها، سواء في التعامل مع أقرانهم أو مع جيرانهم أو مع أفراد أسرهم، تتمثل في (ضبابية) المزاج، مع ارتفاع متدرّج في (درجة حرارة) الأعصاب مصحوبة بقدر غير هيِّن من زخّات (التوتر)! وما أشبه ذلك بطقس بعض مدننا الغالية، والرياض بخاصة، وهي تستقبل فصل الصيف ب(باقات) الغُبار و(ابتسامات) السموم و(غليان) الشمس!
الفرقُ بين الموقفين هو أن التقاعد بالنسبة لهذه الفئة من الموظفين (خريف) بكل ما تعنيه الكلمة: (ذبول) في الإدارة، و(تساقط) في العطاء، و(تصحُّر) في الوجدان!
**
* من أطرف ما رُوي عن (التحوُّلات) التي يشهدها بعض أفراد هذه الشريحة من المتقاعدين أن أحدهم كان يشغل وظيفة (شبه مرموقة) تجمع بين (نمطية) الأداء و(رتابة) الإشراف معاً أدركه موعد (المنون الوظيفي) في (واحد - سبعة)، ولم تفلح الشفاعات ولا المراسلات الرسمية وشبه الرسمية ولا التوسلات المقروءة والمسموعة في (تمديد) خدمته سنة أو أكثر، ولم يغب عن (فطنته)، أو ما بقي له منها، أن المسؤول في إدارته كان يتمنَّى رحيله عنها؛ كي يُستفاد من وظيفته إما لترقية مؤهل أكثر منه عطاءً في الإدارة وإما لاستقطاب آخر (أثْرى) تأهيلاً!
**
* وحل يوم (واحد - سبعة) ليستقبله صاحبنا بالنهوض مبكراً من سبات الليل متثاقلاً كما اعتاد في (غابر) الأيام، ولما لم يكن لديه ما يفعله ذلك اليوم، بعد أفول نجم الوظيفة، فقد (قرَّر) في الحال إشغال نفسه بوسيلة ذات غايتين:
الأولى: (إراقةُ دم) الفراغ الذي حاصره من كل صوب ليُشعل في نفسه الحنين إلى ما كان في أمسه القريب والبعيد: أمراً ونهياً و(استدراراً) للسمع والطاعة!
أما الثانية: فهو (إقناع) أهله بأن التقاعد لم ولن يصادر منه (مواهب) السيطرة والنفوذ والقدرة على الحل والعقد!
* وإنفاذاً لهذا الهاجس بادر صاحبنا بالذهاب إلى مطبخ المنزل لينقل منه (طاولة) عتيقة تستخدمها ربّة الدار لتحضير مواد الطعام، فيضعها في مدخل البيت، ويستر (عوراتها) بمفرش قديم، ويحضر كرسياً من غرفة الجلوس المجاورة يضعه خلف الطاولة، ثم يجلس يرصد (حراك) المنزل، ويصدر (حزمةً) من الأوامر والتعليمات لبعض أفراد الأسرة، فمرة يهتف للأولاد والبنات لكي ينهوا استعدادهم فوراً للذهاب إلى مدارسهم، وأخرى يحث ربة الدار ل(تسريع) وجبة إفطاره وتحضير ملابسه للخروج، على رغم أنه لا ينوي شيئاً من ذلك، وثالثةً يرفع صوته معنفاً الخادمة الآسيوية النحيلة جسداً وإرادةً؛ لأنها لم تباشر بعد مهمة تنظيف المنزل، وتجيبه المسكينة مرتعدةً بالقول: (حاضر بابا)!
**
* ويمضي صاحبنا المتقاعد (يتابع) من خلف (مكتبه الجديد) حراك أهل البيت بأعصاب معجونة بالحميم، فيما تُهَمْهِمُ ربَّةُ الدار (مُحوقلة) مما حلَّ بالأسرة في ذلك اليوم، وقد بلغ الضيقُ بها حدًّا جعلها تنتهز فرصة ذهاب زوجها إلى (دورة المياه) - أكرم الله القرَّاء - لتهاتف مدير الإدارة التي كان يعمل بها تناشده أن يعيده إلى أي وظيفة، حتى ولو كانت مهمة (حاجب) لمكتبه كي (يحجب) عنها هي وآل بيتها صراخه وأذاه و(عربدة) أعصابه، لكن المدير يعتذر للزوجة في أدب قائلاً: لقد قضي الأمر يا سيدتي، دعيه يمارس في منزله، وعبْر (وظيفته الجديدة)، ما أعيانا به هنا سنيناً! حتى يدركه (الأجل الحقيقي) الذي لا يستأخر ساعة ولا يستقدم!
وسبحان مبدِّل الأحوال!

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved