Tuesday 11th July,200612339العددالثلاثاء 15 ,جمادى الثانية 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

شيء من شيء من
المعاصرة والدولة السعودية
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

يقسم المؤرخون التاريخ السعودي الممتد لما يقارب ثلاثة قرون إلى ثلاث دول: الدولة السعودية الأولى التي انتهت بسقوط الدرعية إثر الغزو التركي البربري بكل المقاييس. والدولة السعودية الثانية التي بدأها الإمام تركي بن عبدالله، ثم انتهت باختلاف أحفاده فيما بينهم والصراع على الحكم. وأخيراً الدولة الثالثة الذي أقامها وشيدها ورسخ جذورها المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله.
الدولة السعودية الثالثة، أو دولة الملك عبدالعزيز، تختلف من حيث المضمون، وعلى الواقع، عن الدولتين السابقتين، وإن كانت امتداداً للشرعية التي بدأت من حيث المنطلق من الدولة السعودية الأولى. أهم هذه المتغيرات التي يلحظها قارئ تاريخ هذه الدولة، قدرتها على تحقيق أهم أسباب البقاء والاستمرار، وهو المزج بين (الدعوة) وبين (المعاصرة) التي يتطلبها (شرط) البقاء والاستمرار. فالدولة الثالثة أصبح لها حدود (جغرافيا)، والدولة الثالثة أصبح لها (وطن) محدد المعالم، والدولة الثالثة أصبح لها أنظمة تحدد من هو المواطن ومن هو غير المواطن (أنظمة الجنسية)، وأصبح لمواطنيها حقوق وعليهم واجبات، وأصبحت تحكم وتدار شؤونها من خلال مؤسسات، وليس من خلال أشخاص أو آحاد أو (مناصيب) بالمعنى الذي كان دارجا آنذاك، ولها اقتصاد و(عملة) رسمية ومؤسسات تدير شؤونها المالية، والدولة الثالثة أصبح لها علاقات مع الخارج، كما أصبحت عضوا فعالا في المجتمع الدولي، تؤثر فيه بقدر ما تتأثر به. لقد تحولت الدولة السعودية الثالثة - بالمختصر المفيد - تحولاً نوعياً كبيراً، وانتقلت من مرحلة أنها كانت مجرد دولة (دعوة) لا يحدها حدود، ولا تخضع مفاهيمها لمتطلبات العصر بقدر ارتباطها بالماضي، كما كان الأمر في الدولتين الأولى والثانية، إلى أنها أصبحت (دولة) تحمل وتحمي (دعوة) بالمعنى المعروف للدولة الحديثة في العصر الحالي.
أهم منجزات الملك عبدالعزيز في تقديري الذي جعله يحقق ما لم يحققه غيره، أنه أدرك بعد حروب التوحيد والتأسيس، وقراءة تجربة أسلافه بعمق، أن (المعاصرة) والتحديث، والتماهي مع الظروف المحيطة، هي شرط البقاء والاستمرار الأول. ربما أن من السهولة إلى حد ما أن تبني دولة، كما في الكثير من التجارب المماثلة التي يحدثنا التاريخ عنها، خاصة إذا كنت تمتلك الشرعية التاريخية لتأسيسها، ولكن (الإعجاز) الحقيقي في أن تتجذر وتبقى وتستمر الدولة التي أقمتها... وأمام قناعته - رحمه الله - بضرورة (المعاصرة) والمواكبة والتحديث، التي كانت على ما يبدو راسخة، ولا تقبل المساومة، واجه الكثير من التحديات بعد التأسيس، لعل أهمها وأخطرها تلك الثورات (المسلحة) التي كانت ترفض (المعاصرة) بمعناها الشامل، وتتشبث بمفهوم (مغلق) وضيق للدين، والتي عالجها بقوة وحسم وتصميم آنذاك، فأخمدها، ثم استمر في مشروعه، ولم يتراجع أو يتزحزح عن قناعاته وإيمانه بضرورة فرض (المعاصرة) فرضاً قيد أنملة. أما النتيجة، أو المحصلة، فهي الدولة التي نعيش الآن في نعمها وخيراتها.
يقول التاريخ، كما في وثيقة اطعلت عليها، أوردها الشيخ عبدالعزيز التويجري في كتابه (لسراة الليل هتف الصباح)، إن أحد كبار المشايخ المعاصرة للملك عبدالعزيز قد نصحه، من منطلقات دينية كان يراها الشيخ، بأن يوقف التنقيب عن النفط والمعادن؛ لأن: (دوجان هؤلاء - أي المنقبين - في نجد تشمئز منه نفوس كل من كان في قلبه رائحة إيمان).. كما جاء بالنص في الوثيقة!. وهي مؤرخة في 2 ربيع الثاني 1355هـ. ولك أن تتصور لو أن الملك عبدالعزيز أطاع هذه (النصيحة)، وأوقف التنقيب عن النفط والمعادن امتثالاً لنصيحة الشيخ، هل ستستمر دولته وتبقى، بل هل ستكون المملكة (كوطن)، التي نعيش فيها، وننهل من خيراتها، بهذا الوضع الذي نحن فيه الآن؟.
و(المعاصرة) التي أعطت للملك عبدالعزيز كل هذا الزخم، وأعطت لدولته هذه القوة والقدرة على البقاء والاستمرار والتماسك، هي حركة دائبة ودائمة لا تتوقف. فما هو صالح أو (معاصر) اليوم، سيصبح ليس كذلك - ربما - في الغد، وهكذا دواليك. وعندما تتوقف (المعاصرة)، أو تتجمد في الوضع (الراهن)، أو حتى تتحرك ببطء، ينعكس ذلك حتماً على الدولة، أية دولة؛ فالمواكبة والتغيير والإصلاح حسب متطلبات كل مرحلة تاريخية، هي الشرط الأول لبقاء الدول، وهي فحوى (المعاصرة)، وهي قلبها النابض، والشريان الذي يضخ الدم لبقية أعضاء الجسد، فتسري فيه الحياة، وتزداد قدرته ومقاومته لتقلبات الظروف.
ولأننا نتحدث هنا عن الأب المؤسس، ونتتبع خطاه، ونتلمس مواصفات (النموذج) الذي رسخه - رحمه الله - فأجد أن من المناسب أن أختم بمقولة له في إحدى خطبه التي يتحدث فيها عن ضرورة (النقد) بكل وضوح، يقول فيها بالنص: (يجب أن يصرح كل فرد بما في نفسه، ويقول ما يعتقد فيه منفعة، فهذا أمر (واجب) على كل إنسان لأن مجال البحث والتدقيق يوصل إلى نتائج حسنة، فعلى الإنسان الاجتهاد، ومن الله التوفيق) منى 15 محرم 1355هـ الموافق 2 يونيو 1931م. هكذا كان يقول عبدالعزيز - أيها السادة - قبل سبعين سنة!.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved