Tuesday 11th July,200612339العددالثلاثاء 15 ,جمادى الثانية 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

السِّجل الدموي للقرن العشرين 2 -2 السِّجل الدموي للقرن العشرين 2 -2
د. حسن بن فهد الهويمل

لقد كان (بريجنسكي) أكثر واقعية ومصداقية من الكثرة الغثائية المجادلة عن جنايات الغرب، وهو الغربي المستثمر لمكاسب السياسة الغربية، وهو الأدق في تصوُّر الواقع الغربي وتحدِّياته، فلقد فصَّل الحديث عن (سياسة الجنون المنظم) و(الموت الملاييني). ولمّا لم يكن عاطفياً ضد الحضارة الغربية، فقد عوَّل على التاريخ الحديث، ليشهد بما علم، وهو اتكاء ذكي، ينجيه من التخوين والتجهيل الذي تتبادله النُّخب العربية فيما بينها. لقد تعقّب الحروب، وما أسفرت عنه من قتلى بالملايين، معظمهم من الشباب الأمريكي الذي يدفع دمه ثمناً للنفط أو للأمن الصهيوني، ومثلهم معهم من الأسرى والمعاقين والمشرَّدين والمساجين والمفقودين والمرضى النفسانيين، وكلُّ أولئك ضحايا حروب غير معلنة وغير مشروعة، أذكاها، أو رعاها الغرب، حتى إذا فرضت الأمر الواقع بين الأعراق أو الطوائف أو المناطق، عاد يبلسم الجراح، ويدعو للإصلاح، فكان البرُّ الرحيم في نظر البسطاء الساذجين، ولو أنّه تخلَّى عن تدخُّلاته، وخلَّى سلاح المتنازعين بينهم لسوَّوا خلافاتهم فيما بينهم.
فأيُّ حضارة تلك التي تستمرئ القتل العشوائي والتدمير المجاني، وتمكن من استفحال المجاعات والأوبئة والاضطرابات والثورات الدموية، وتقطع آلاف الأميال بسلاح الدمار إلى بلاد فيها ما يلهيها ويشقيها على يد أبنائها. أليست ذات وجه قبيح مستقذر تخفيه وراء زيف الأقنعة؟ وحين تضع الحرب أوزارها، يستحر القتل التصفوي، وهو ما يُعرف بإعدامات (أعداء الشعوب). إنّ إحصائيات القتل العسكري والإعدامات الثورية يشيب من هولها الوليد، والوعي السياسي عبر التاريخ الحديث لم يكن إلاّ ومضات خافتة، لا تتمكن الشعوب معها من التقاط أنفاسها، وما من (طوباوية) يتفوّه بها ثائر إلاّ كانت كما اللهب للفراش. والحروب الباردة تجر الأقدام والأقلام إلى التفسُّخ والتحلُّل والتمييع لحدود الله، والتلميع لأعدائه، والمؤذي أنّ الناهضين بالمهمات البلاغية هم أبناء الحضارة المستباحة. هذا الواقع المدان بكلِّ المقاييس لم يحرك شعرة في مفرق الراقصين على الجراح، ولم يعدل شيئاً في ساقط الكلام الذي يلوون به ألسنتهم.
والحضارة المعشوقة إن لم تكن حاضرة بالسيف واللسان فهي وراء المجازر بالتبرير والتغرير والإمداد بالغي وحق (الفيتو). وإذ تكون لها الكبرياء المادية فإنّها دون ذلك فيما سواها، ولو عرفنا لها مجال الكبرياء، وأَبنَّا للملأ وجهها الآخر بكلِّ قبحه ودمامته، لكنَّا عدولاً في أحكامنا. ولسنا بدعوتنا تلك دعاة حرب ولا قطيعة، وشنآننا لا يحملنا على الظلم، وكيف لا يكون عدل مع النفس ومع الغير وحضارتنا تدعو إلى ذلك في الحكم بين الناس كافة مؤمنهم وكافرهم، ومشنوؤهم ومحمودهم. وما قامت السماوات والأرض إلاّ على العدل.
وكتاب (بريجنسكي) يستمد مصداقيته من التوثيق في الزمان والمكان والحدث، ومن لغة الأرقام التي لا تكذب أهلها. ولو قرئ التاريخ الحديث بأبصار حادّة تعضدها البصائر الجادّة، لأصبح الذين يتمنّون التماثل والتماهي بالأمس يقولون غير قولهم التمجيدي الباذخ. ولمَّا كانت حضارة التناقض لا تنازع في شيء مما هي عليه، وليس في المنظور القريب من يوازيها، فإنّ مقاييس التميُّز لا تكون في العتاد والعدّة والعدد، وإنّما هي في القيم والمبادئ. والذين يتولون شطراً من المفاضلة والتصدير، ليسوا من أبنائها، وإنّما هم من ضحاياها، وتلك إشكالية المغلوب، إنّه يصنع الهزيمة والانكسار، كما يصنع الفقراء الفقر بسوء التقدير والتدبير.
و(بريجنسكي) الذي رصد الأحداث السياسية والعسكرية، وتقصى الأحلاف والمؤامرات لم يكن أكثر من شاهد على العصر، لعيضه بأكثر من حدث، أملاً في استقبال العصر الجديد بآلية جديدة، وتفكير جديد، يحقنان الدماء، ويؤلفان بين الفرقاء، ويعيدان للإنسان المتوحش إنسانيته، وللإنسان المستباح حريته. وإذ يجعل من (أمريكا) رأس الحربة فإنّه يشير إلى تجاوزات (فرنسية) و(ألمانية) و(روسية) ولكنها تجاوزات وقتية، وإن كانت قاصمة، فما فعله (الفرنسيون) في (الجزائر)، وما فعله (الإيطاليون) في (ليبيا)، وما أشعلته (ألمانيا) من حرب عالمية وصمة عار في جبين الحضارة الغربية. ولو أنصف المؤرِّخون وأحصوا القتلى تحت راية الإسلام خلال أربعة عشر قرناً في مقابل ما قتل في الحربين العالميتين، وما بينهما، وما بعدهما من حروب شرسة ذات غايات دنيئة لأدرك الجميع أنّ الإسلام دين دعوة انتشر بالقدوة، ولم يبلغ المشارق والمغارب بالسيف. وما لا ننكره اعتزال أمريكا في مطلع القرن المنصرم، ووقوفها على الحياد الإيجابي ردحاً من الزمن، واشتغالها بصناعة الحضارة المادية، وتحقيق العلم بظاهر الحياة الدنيا، إذ كانت إذ ذاك دولة العدل والحرية والمدنية. ولكن هذا الاعتزال الإيجابي انقلب على عقبيه، فخسرت الشيء الكثير. والعداء المستشري لأمريكا سيكلفها الشيء الأكثر. وإن كانت طائفة من عشاق الأضواء قد استحوذ عليها حب عذري يمتلئ هيبة وإجلالاً.
والتناقض الذي لم يتبيَّنه المخدوعون والمخادِعون تناوله الكاتب الغربي الممتلئ معرفة وإنصافاً في الفصل الثاني (الرسالة غير المتناغمة) وهو حديث رصدي لسياسة أمريكا الخارجية، فهي في مطلع القرن تُعرف برسالتها عن (الحرية) بكلِّ مغرياتها، وفي منتصفه قدّمت رسالتها العسكرية متلبّسة بردود أفعال متناقضة. وتلاحق التدخُّلات العسكرية، واللُّعب السياسية، والقمع المتعمّد للإرادة الإنسانية ب(الفيتو) واكبه انهيارات في سائر القيم تَمثَّل في تدنِّي التعليم والعناية الصحية وتدهور البنية التحتية والثراء الفاحش للبيض والفقر المدقع للسود وانتشار الجريمة والعنف وثقافة المخدرات وظهور اليأس الاجتماعي واستفحال الإباحية والفساد الأخلاقي، وانخفاض الوعي الديني والتعدُّدية المهدّدة بالتفتُّت. وخير تجسيد للسياسة الخارجية توحي به مذكّرات وزراء الخارجية الأمريكية، وهو ما سنقرؤه، ونستقرئه - فيما بعد - لنستبين انعكاس سوء التدبير على سائر الحيوات الخارجية والداخلية من دول يفترض أن تكون راعية للعدالة الإنسانية كما تدّعيها، وكما يشيعها المتعشّقون لها.
وفي الفصل الثالث حديث عن (خصوم بلا حدود) وهذا في نظري نتيجة التخبُّط، وفيه تساؤل مُلح عن احتمال عجز أمريكا عن توجيه سلطة عالمية فعالة: - فهل من بديل؟ لقد أوجس الأمريكان خيفة من الحرب التجارية مع (اليابان) ولم تخفهم الحرب العسكرية بعد امتلاكهم لقوة الردع، وحرب النجوم، وضمان التفوُّق العسكري. والخوف من تحوُّل القوة الاقتصادية إلى قوة سياسية، تقلّص النفوذ السلمي، ومن ثم تتحوّل أمريكا إلى مجرَّد شرطي يملك أفتك الأسلحة، ويقوم بممارسة التأديب لكلِّ حراك إنساني تتوقّع أنّه يهدِّد سيادتها على العالم لا على نفسها، إذ ليس بمقدور العالم الثالث أن تصل يده إليها. ولأنّ مهمات الشرطي قد تفسح المجال لحراك اقتصادي فإنّ دول (شرق آسيا) رحّبت بالتفوُّق العسكري الأمريكي الذي ألهاها عن كلِّ مهمة إنسانية، ولربما تكون غطرسة القوة من حوافز التكتُّلات الأوربية والشرق آسيوية، وعندئذ ينفلت زمام القطب الواحد. وليس أدل على ذلك من تألُّق السياسة الفرنسية في عهد (ديجول) لقد ركز على الحرية والكرامة الإنسانية، حتى لقد شد أنظار العالم إلى الجمهورية الخامسة.
ويختم المؤلِّف حديثه عن (معضلات الاضطراب العالمي) مستبعداً أن تكون أمريكا شرطياً أو مصرفياً للعالم، وذلك التوقُّع إحساس يجتال المكتوين بنارها من أبنائها الفارين بجلودهم من التجنيد، وبأثريائها الفارين بأموالهم من الضرائب التصاعدية، وإذ تمتلك الأمم المتحدة قدراً من السلطة العالمية التي تمنحها مشروعية التدخُّل، ولو من خلال القرارات غير المنفّذة، فإنّ أمريكا تمارس المهمات نفسها دون مشروعية. وهذا تصرُّف يقدح فيما تُدلُّ به، ويُدلُّ به المبهورون من حرية وعدالة ومساواة وصدق وانضباط وخضوع طوعي للقانون الدولي والأعراف الدولية. وهل تستطيع شعارات الحرية والعدالة والمساواة إزالة وضر النجاسة العينية في (الماسونية) و(الصهيونية) على سبيل المثال؟.
وسخريّة الكاتب في مغامرات أمريكا جعلته يفترض خيارات مستقبلية تتمثَّل بتوقُّع (اتحاد عالمي) بدلاً من الهاجس الأمريكي ب(حكومة عالمية). ولعلَّ حفلات الأعراس بانهيار الاتحاد السوفيتي انقلبت إلى مآتم، فالاضطلاع بمهمات القطب الواحد باهظة الثمن، لقد أدّت إلى اضطلاع أمريكا بمهمات (الشرطي) و(المصرفي) في آن، ولتخفيف الأعباء وصرف الأنظار انبعثت اللُّعب السياسية، وأمعنت في فتح ملفات (الحدود) و(الأعراق) و(الطائفيات) و(تعارض المصالح) و(تعدُّد الأحلاف) وتلك الملفات أنتجت ما وصفه المؤلف بحمامات الدم والاضطراب العالمي. ما نريده من الكتبة الممجِّدين أن يقرؤوا أمريكا من الداخل، وأن يتعرّفوا على مغامراتها في الخارج، وألاّ يقولوا عليها إلاّ الحق.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved