بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرامُ |
تلكم هي بلادي الحبيبة، بلادي الغالية، بلادي القابعة في سويداء الفؤاد، وفي سواد العين، ودهاليز العقل والوجدان.. تلكم هي بلادي.. إنها ليست فلسطين الجريحة النازفة المستنجدة الضائعة فقط، وليست سورية الأبية مسقط رأسي ومرتع طفولتي وشبابي ومراهقتي وتعليمي فقط، وليست السعودية عيشي الآمن وملاذي ومسقط رأس أولادي وأحفادي فقط بل هي الوطن العربي الكبير.
تلكم هي بلادي.. ليست المرسومة فقط خرائط في الأطلس واللوحات والمجسمات، والمدونة في أمهات الكتب والمخطوطات، بل هي في دمي وروحي وعقلي وعاطفتي مسكونةً في حديثي وصمتي وتأملي، في واقعي وأحلامي تلكم هي بلادي الحبيبة ليست بلداً واحداً بل (اثنان وعشرون) بلداً. تلكم هي وطني العربي وعالمي العربي الكبير.
ما أسعدني به وطناً إذا تكاتف وتآزر وتسامح وتعاضد وبرئ من السموم والأوجاع والأحقاد والاستعمار، ولكن الوجع والأنين يزداد يوما بعد يوم.. والجراح الغائرة في أعماقي (توجع وتدمي) وتدعو للتساؤل، للنقاش، للحوار، لوضع اليد على الجراح لمداواتها لتبرأ..
وأن الامتهان لكرامة الأرض العربية يزداد يوماً بعد يوم منا نحن أبناء هذه الأرض، ومن الغادرين الطامعين من الخارج، فهلا نظرنا إلى عالمنا العربي، هذا الجسد والنبض الواحد، هذه الهوية الواحدة والدين الواحد لنرى ببصيرةٍ وحكمة ماذا حصل له.. وماذا يحصلُ له؟ وماذا سيحصل له..يا أخي العربي.. تأكد أنني أحبك في أي مكان في وطني العربي الكبير، وتأكد أن الاستعمار الجائر الذي مزَّق جسدنا وشرحه، وقطعه إرباً إرباً لا يستطيع أن ينتزعك من قلبي وعاطفتي ودمي ولغتي وديني ووطنيتي وانتمائي.. ولا يستطيع أن ينتزع قلبي من صدري ليجبرني أن أحب سورية، وأكره لبنان، أو أحب السعودية وأكره عمَّانْ، أو أحب تونس الخضراء وأكره القيروان، أو أحب اليمن السعيد وأكره بغدان، أن أحب غامد وأكره زهران أن أحب فلسطين وأكره أسوان...
يا أخي العربي أينما كنت... بالله عليك انظر بتمعن وتمحيص إلى الجبال والوديان، إلى البحار والأنهار والغدران إلى الروابي والصحاري.. واستمع صوت الأذان ينادي الرحمن.. ويصلي على النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- العدنان أفلا يخفق قلبك لتلك الأركان، أفلا تشتاق روحك نظرة تأمل وتمحصٍ وحنان.. ماذا ترى بالله عليك أليست تتشابه وتتشابك وتمتزج بكل حنان لتعانق بعضها بعضاً عند (ما أسماه الاستعمار بالحدود) التي مزقت الأوطان، وفرقت الأهل والصحب والإخوان والخلان، تلكم الحدود التي رسمها بمكرٍ ودهاءٍ ليجعل لكل بلدٍ هويةٍ ومباني، هو الظالم الذي مزقنا.. قطعنا، شوهنا وما زلنا نبتسم له ونمد له اليدين.يا أخي العربي انظر إلى الفرفة والانعزال الحاصل بين جسدنا العربي الواحد؟؟ بالله عليك مَنْ كان ليصدق ما يحصل مما حصل لسورية ولبنان، هاتان البلدان العاشقان الحالمان الصديقان الحبيبان التوأمان...
هاتان الرئتان المنفتحتان المتنفستان نفس الهواء دوماً... بيروت سياحية، ودمشق تاريخية.. انظر إلى الجغرافية الحميمية التي تذكر كلاً منهما بالأمجاد والأجداد والثقافة والأحلام والآمال... كيف اختفت؟ ومن الذي أَمَرَ، بل ونفذ وحكم عليهما بالإعدام...
مَنْ الذي طعن وخان في الظهر هاتان المدينتان العريقتان تستنجدان، كما تستنجد بغداد، وكما يستنجد القدس الشريف في كل مكان بالعرب والمسلمين وبالفصائل والأحزاب الفلسطينية بأن تتكاتف، وتتعاضد وتنسى الضغائن والثأر والمناصب والأحزان، وتهتم بالهدف السامي الأول (الأرض والعرض والقدس والوطن) إذ من العيب أن نصبح علكة تلوكها الألسن في كل مكان، ومن العيب أن نتقاتل على الكرسي، ونقتل بعضنا بعضاً، فالهدف أكبر وأسمى، وأنبل وأعمق من كل هذا يا إنسان....
فمن بالله عليكم... ينقذ الإنسان اللبناني، والإنسان السوري والإنسان الفلسطيني والإنسان العراقي.. من ينقذ (الإنسان العربي) (الإنسان العربي).. من نفسه أولاً، ومن الظالمين المستعمرين ثانياً... فالإنسان العربي مظلوم وظالم لنفسه ويتخبط في محيط لا يعرف له قرار، وأنا أردد مع الشاعر نزار
بكيت حتى انتهت الدموع
حتى ذابت الشموع
ياقدس يا مدينة الأحزان
مَنْ ينقذ الإنسان؟
مَنْ يوقف العدوان؟
يا قدس إن الموت بيننا موزع
كل أطفال العرب
يرمون في مقبرةٍ واحدة
بعضهم يدفن في الجنوب من لبنان
وبعضهم يرقد تحت هضبة الجولان
وبعضهم تأكله الأسماك في دجلة والفرات
وأنا أقول... وبعضهم تأكله النيران المتأججة في الصدور والأحزان.
يا أخي العربي ها هي بيروت ودمشق وسط الأحزان تتعانقان خِلْسَةً من وراء حجاب، من خلال الذين تزاوجوا وتهاجروا وأنجبوا صبايا وشبابا. بيروت ودمشق تتعانقان خِلْسَةً لأنهما مملوءتان بالآهات والذكريات والروح والإحساس ولن تصد المشاكل في وجههما الأبواب.
فلماذا نقضي بسياستنا على ذلك الحب الكبير والعشق الفريد بين قلب العاصمتين العاشقتين..
يا أخي العربي ألا تعلم أن سكان الشام كانوا يفطرون في دمشق، ويتناولون عشاءهم في بيروت الحالمة، تماماً مثلما كان يفعل أبي -رحمه الله-، حيث كان يفطر في عكا ثم يتعشى في بيروت قبل عام 1948م. حيث كانت بيروت له كالصبية اللطيفة الرقيقة الوادعة وكالأم الحنون تحتويه وأصدقائه من الكتاب والشعراء والأدباء والمسؤولين كل مساء.
لا أعلم ماذا جرى الآن لأرضنا العربية!!؟؟
صدقوني كانت العروس اللبنانية لا تشتري ملابس زفافها إلاَّ من سوق الحميدية التاريخي، ومن سوق اتفضلي ياست، وسوق العرائس. والسوريون كانوا لا يتبضعون إلاَّ من أسواق الحمراء والمزرعة في بيروت.
تلك الأماكن التي لها عظيم الذكريات بين أبناء العرب، لماذا نحكم عليها بالإعدام؟؟ ولماذا نبكي متخفين خلف الأبواب، وفي الدهاليز المظلمة متحسرين على هذا الفراق الصعب والموجع بين بلدين (طُلِّقا) بفعل فاعلٍ حاقدٍ، بعد أن كانتا أعظم حبيبتين على الإطلاق.
والآن يا أخي العربي استمع إلى اللبناني فإنه يغني مع محمد عبده الأماكن كلها مشتاقة لك. والسوري يردد أيضاً الأماكن كلها محتاجة لك، والفلسطينيون بالإجماع يرددون الأماكن كلها محتاجة لك.. الدم العربي.. ينادي بوجع... الأماكن كلها محتاجة لكل العرب، فهل يعي العربي ما معنى ذلك؟؟ هل يعي العرب ما معنى أن يربطنا المكان ونرتبط به، معنى أن يعاشرنا المكان ونتعاشر معه، معنى أن يألفنا المكان ونتآلف معه، معنى أن يصالحنا المكان ونتصالح معه، معنى أن يصافينا المكان ونتصافى معه، معنى أن يعانقنا المكان ونتعانق معه.
هل يعي العرب ما معنى الانتماء والاحتواء والتآلف والاندماج والانصهار حقيقة أم هي كلمات تقال بالأفواه فقط.. أن نحسها، نشعر بها أقسم بالله أنني أتمزق إرباً لما آل عليه العرب في هذا العصر.. أرجوكم إخوتي.. أحبتي.. أبناء جلدتي ولغتي وديني وأرضي... أرجوكم أن ندع السياسة للسياسيين، ونترك أفراد الشعوب تتآلف وتتعاضد، وتتكاتف بالحب والاحترام والوفاء والإخلاص. أرجوكم أن نحتوي بعضنا بعضا لنحافظ على المكان (الأرض) (الهوية).. ونحتويه بكل قوة، ونحافظ عليه في حجرات القلب ودهاليز العقل.
* وبعد:
حقاً لا شيء أسوأ من الغموض حين يحيط بقضايا الشعوب الواحدة ومستقبلهم. ألا ترددون معي... الأماكن كلها محتاجة لك.. ألا ترددون معي..
بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرامُ |
* لحظة صدق:
وطني حبيبي الوطن الأكبر يوم وراء يوم أمجاده بتكبر |
أتمنى أن تعود أمجادنا.. وانتصاراتنا.. وحكمتنا.. وتآلفنا فماضينا عريق.. عريق.. وفريد.. ومميز.. اللهم آمين.
|