يأتي موضوع هذا الأسبوع استكمالاً لموضوع الأسبوع الماضي، الذي كان عن تزايد أعداد المحللين والمتخصصين والخبراء الاقتصاديين والماليين والأسباب وراء هذا الظهور المفاجئ والكثيف وتدني مستوى الطرح الإعلامي الاقتصادي.
ولعل من أسوأ الأسباب تقديم تحليلات وتحقيقات مجيرة لخدمة أغراض معينة تصب في صالح معد التحليل أو التحقيق وإيهام الآخرين بأن ما قُدم محايد ومبني على أسس علمية ومدعوم بالبراهين.. ويتضح هذا في بعض التحليلات الخاصة بسوق الأسهم ومسارها، وكم يكون الأمر سيئاً عندما تفسح قنوات فضائية - بقصد أو بدون قصد - المجال لهؤلاء لتضليل عامة الناس وجعلهم يتخذون قرارات تخدم أهدافهم.
وأتصوَّر أن مكمن المشكلة هو في عدم توافر الكوادر المؤهلة وعدم استعداد كثير من المؤهلة للانخراط في هذه الفوضى العارمة خصوصاً إذا كان صوت العقل لا يلقى الانتباه اللازم.. على أن هذا لا يعفي العدد القليل المؤهل الجاد من مسؤوليتهم المجتمعية تجاه بناء تحليلات علمية وموضوعية، ومن ثم وضعها في أُطر وصيغ يسهل على غير المختصين استيعابها وفهمها ومساعدتهم على اتخاذ قرارات عقلانية.
وفي المقابل فإن وسائل الإعلام تتحمَّل جزءاً من المسؤولية إذ إن كثيراً منها لا تكلف نفسها عناء البحث عن المتخصصين الجادين سواء في المؤسسات الأكاديمية أو المهنية.. هذا فضلاً عن أنها قليلاً ما توظِّف الكفاءات المتخصصة، ويبدو ذلك واضحاً من القدر الهائل من الابتسامات التي تظهر على الشاشة وراء كل خطأ - يشعر به صاحبه - عند قراءة الأخبار أو التحليلات والتقارير الاقتصادية والمالية، ناهيك عن التأتأة وتصنُّع الارتجال في أحيان أخرى.. وفي ظل هذا الوضع المزري لم يعد صعباً تصديق الشائعات عن وجود برامج تُعنى بسوق الأسهم - على وجه الخصوص - يدفع معدوها ومقدموها للقناة مقابل استضافتها لها.
ولو نظرنا إلى وسائل الإعلام في الدول المتقدمة صناعياً لوجدنا من يتصدر لقضايا المجتمع في البرامج المتخصصة هم عادة المتخصصون وتترك الفرصة لغير المتخصصين للحديث عنها في (برامج السواليف) أوtalk Shows إن صحت الترجمة، التي تناقش قضايا الرشاقة والطبخ والدين والإرهاب والاقتصاد والفن والمرور وغيرها، ولا يتصور أن مجتمعاتنا العربية تُعاني من ندرة المبدعين في هذا الجانب.. وعلاوة على ذلك فإن من يعد البرامج التحليلية والتقارير المتخصصة ويرسمون محاورها وأطرها هم متخصصون ويستشيرون متخصصين.
ليت بعض من يملأ القنوات الفضائية زعيقاً ويحوِّل شاشات التلفزيون أينما شرَّق الشخص أو غرَّب في الفضاء العربي يحاول الاستماع إلى هذه البرامج والتعلُّم والاستفادة منها.. وقديماً قيل: إن الله ما خلق للإنسان أذنين اثنتين ولساناً واحداً إلا ليستمع أكثر مما يتكلم.
وليت من يسود صحفنا بالتحليلات والتقارير الاقتصادية - أو كما يظن أنها كذلك - أن يقلِّب فقط ولا أقول يقرأ صفحات الجرائد المتخصصة مثل The Wall Street Journal أو Financial Times أو غيرها، ويتعرَّف على طبيعة ما يُكتب وكيفية الكتابة سواء للمتخصصين أو لغيرهم.
للأسف أن واقع الإعلام الاقتصادي لا يعكس تماما التغيُّرات الاقتصادية الهائلة في المجتمع، الذي يتصف في كثير من الأحيان بالسطحية وينحصر دوره في نقل الخبر فقط، وفي أحيان أخرى ببيان علاقة الحدث بسوق الأسهم وما يحدث فيها بغض النظر عن وجود العلاقة ابتداءً ذلك أن كثيراً ممن ابتلوا بحب الظهور الإعلامي عن طريق التطفل على الاقتصاد والأعمال لا يعرفون منهما إلا سوق الأسهم.. رائدهم في ذلك الأسطورة الشعبية التي تقول إن كفيفاً أبصر لثوانٍ فقط فكان ما شاهده رأس ديك، ثم عاد كما كان، فكان إذا حُدث عن شيء أو وصف له قال: كيف هو من رأس الديك.
|