Sunday 4th June,200612382العددالأحد 8 ,جمادى الاولى 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"وَرّاق الجزيرة"

لسان الدين بن الخطيب «المؤرخ والعاطفة» 3- 4 لسان الدين بن الخطيب «المؤرخ والعاطفة» 3- 4
عبدالرحمن بن محمد العقيل

ويقول القاضي النُّباهيّ في باقي ردّه على لسان الدين بن الخطيب: (يا أخي - أصلحني الله وإياكم - بقي من الحديث شيء الصوابُ الخروجُ عنه لكم؛ إذ هذا أوانه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيه ما فيه، وليكون البناء بعد أن كان على أصل صحيح بحول الله، وحاصله أنكم عددتم ما شاركتكم فيه بحسب الأوقات، وقطعتم بنسبة الأمور كلها إلى أنفسكم، وأنها إنما صدرت عن أمركم وبإذنكم، من غير مشارك في شيء منها لكم، ثم مَننتم بها المنَّ القبيح المبطل لعمل بِرِّكم على تقدير التسليم في فعله لكم، ورميتم غيركم بالتقصير في حاله كله، طريقَةَ مَن يُبصر القَذى في عين أخيه ويدع الجِذْع في عينه، وأقصى ما تَسنّى للمُحِبِّ (يعني نفسه) أيام كونكم بالأندلس تَقلُّد كلفة قضاء الجماعة، وما كان إلا أن وليتها بقضاء الله وقدره، فقد تبيَّن لكل ذي عقل سليم أنه لا مُوْجِدَ إلا الله، وأنه إذا كان كذلك كان الخير والشرّ والطاعة والمعصية حاصلاً بإيجاده سبحانه وتخليقه وتكوينه من غير عاضد له على تحصيل مُراده ولا مُعين، ولكنه جلَّتْ قدرته وعدَ فاعل الخير بالثواب فضلاً منه، وأوعد فاعل الشرّ بالعقاب عدلاً منه، وكأني بكم تضحكون من تقرير هذه المقدمة، وما أحوجكم إلى تأمّلها بعين اليقين، فكابدت أيام تلك الولاية النكدة من النكاية باستحقاركم للقضايا الشرعية، وتهاونكم بالأمور الدينية، ما يعظم الله به الأجر، وذلك في جملة مسائل: منها مسألة ابن الزبير المقتول على الزندقة بعد تقضي موجباته على كره منكم! ومنها مسألة ابن أبي يعيش المثقف في السجن على آرائه المُضِلَّة التي كان منها دخوله على زوجه إثر تطليقه إيّاها بالثلاث، وزعمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره مشافهة بالاستمتاع بها، فحمَّلتم أحد ناسكم تَناوُلَ إخراجه من الثّقاف من غير مبالاة بأحد! ومنها أنّ أحد الفتيان المتعلقين بكم توجّهتْ عليه المطالبة بدم قتيل، وسيق المدَّعى عليه للذبح بغير سكين، فما وسعني بمقتضى الدِّين إلا حبسه على ما أحكمته السنّة، فأنفتم لذلك، وسجنتم الطالب وَليَّ الدَّم، وسرَّحتم الفتى المطلوب على الفور!.. إلى غير ذلك مما لا يَسع الوقت شرحه، ولا يَجمل بي ولا بكم ذكره.. والمسألة الأخرى أنتم توليتم كبرها حتى جرى فيها القَدَر بما جرى به من الانفصال، والحمد لله على كل حال، وأما الرمي بكذا وكذا مما لا علم لنا بسببه، ولا عذر لكم من الحق في التكلّم به، فشيء قلّما يقع مثله من البهتان ممن كان يرجو لقاء ربّه، وكلامكم في المدح والهجو، هو عندي من قَبيل اللغو، الذي نَمُرُّ به كراماً والحمد لله، فكثِّروا أو قَلِّلوا من أيّ نوع شئتم، أنتم وما ترضونه لنفسكم، وما فهت لكم بما فهت من الكلام، إلا على جهة الإعلام، لا على جهة الانفعال، لما صدر أو يصدر عنكم من الأقوال والأفعال، فمذهبي غير مذهبكم، وعندي ما ليس عندكم. وكذلك رأيتكم تكثرون في مخاطباتكم من لفظ الرُّقْيَة في معرض الإنكار لوجود نفعها، والرمي بالمنقصة والحمق لمستعملها، ولو كنتم قد نظرتم في شيء من كتب السنّة وسير الأمة المسلمة نظر مُصَدِّق لما وسعكم إنكار ما أنكرتم، وكَتْبِه بخط يدكم، فهو قادح كبير في عقيدة دينكم، فقد ثبت بالإجماع في سورة الفلق أنها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه المراد بها هو وآحاد أمته، وفي أمهات الإسلام الخمس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان إذا اشتكى رَقاه جبريل، فقال: بسم الله يُبْرِيك، ومِن كلِّ داء يشفيك، ومن شرّ حاسد إذا حسد، ومن شرّ كلّ ذي عين)، وفي (الصحيح) أيضاً: أنّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سَفَر، فمروا بحيّ من أحياء العرب، فاستضافوهم، فلم يضيفوهم، فقالوا: هل فيكم راقٍ؟ فإن سيّد الحيّ لديغ، أو مصاب، فقال رجل من القوم: نعم، فأتاه فَرَقاه بفاتحة الكتاب، فبرئ الرجل، فأعطي قطيعاً من غنم.. الحديثَ الشهير، قال أهل العلم: فيه دليل على جواز أخذ الأجرة على الرُّقية والطب وتعليم القرآن، وهو قول مالك وأحمد الشافعي وأبي ثور وجماعة من السلف، وفيه جواز المقارضة، وإنْ كان ضد ذلك أحسن، وفي هذا القدر كفاية.
وما رَقَيْتُ قطُّ أحداً على الوجه الذي ذكرتم، ولا استرقيت والحمد لله، وما حملني على تبيين ما بيّنته الآن لكم في المسألة إلا إرادة الخير التامّ لجهتكم، والطمع في إصلاح باطنكم وظاهركم، فإني أخاف عليكم من الإفصاح بالطعن في الشريعة، ورَمي علمائها بالمَنقصة على عادتكم وعادة المستخِفّ ابن هذيل شيخكم مُنْكِر عِلْم الجزئيات، القائل بعدم قدرة الرَّبّ جلّ اسمه على جميع الممكنات. وأنتم قد انتقلتم إلى جوار أناسٍ أعلامٍ قلَّما تجوز عليهم - حفظهم الله - المغالطات، فتأسركم شهادة العدول التي لا مَدفع لكم فيها، وتقع الفضيحة، والدِّين النصيحة، أعاذنا الله من دَرك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجَهْدِ البلاء.
وكذلك أحذّركم من الوقوع بما لا ينبغي في الجناب الرفيع، جناب سيّد المرسَلين، وقائد الغُرِّ المحجَّلين، صلوات الله وسلامه عليه، فإنه نُقِلَ عنكم في هذا الباب أشياء منكرَة، يكبر في النفوس التكلّم بها، أنتم تعلمونها، وهي التي زَرَعَتْ في القلوب ما زَرَعَتْ من بغضكم، وإيثار بُعدكم، مع استشعار الشَّفقة والوَجَل من وجه آخر عليكم، ولولا أنكم سافرتم قَبْلَ تقلّص ظل السلطنة عنكم، لكانت الأُمّة المسلمة امتعاضاً لدينها ودنياها، قد بَرزت بهذه الجهات لطلب الحق منكم، فليس يعلم أنه صدر عن مثلكم من خدام الدُّوَل، ما صدر عنكم من العَيْث في الأبشار والأموال، وهتك الأعراض، وإفشاء الأسرار، وكشف الأستار، واستعمال المكر، والحِيَل والغدر، في غالب الأحوال للشريف والمشروف، والخديم والمخدوم.. ولو لم يكن في الوجود من الدلائل على صحة ما رضيتم به لنفسكم من الاتّسام، بسوء العَهْد والتجاوز المحضّ، وكفران النِّعَم، والركون إلى ما تحصَّل من الحطام الزائل إلا عملكم مع سلطانكم مولاكم وابن مولاكم، أيّده الله بنَصره، وما ثبت من مقالاتكم السيئة فيه وفي الكثير من أهل قُطره؛ لكفاكم وَصْمَة لا يغسِلُ دَنَسها البحر، ولا يَنسى عارها الدهر، فإنكم تركتموه أولاً بالمغرب عند تلوّن الزمان، وذهبتم للكدية والأخذ بمقتضى المقامة الساسانية، إلى أن استدعاه الملك، وتخلَّصتْ له بعد الجهد الأندلس، فسقطتم عليه سقوط الذباب على الحلواء، وضربتم وجوه رجاله بعضاً ببعض، حتى خلا لكم الجَوّ، وتمكَّن الأمر والنهي، فهمزتمُ ولمزتمُ، وجمعتُم من المال ما جمعتم، ثم ورَّيتم بتفقّد ثَغْر الجزيرة الخضراء، مكراً منكم، فلما بلغتمُ أرض الجبل انحرفتم عن الجادّة، وهربتم بأثقالكم الهروب الذي أنكره عليكم كلّ مَن بلغه حديثكم أو يبلغه إلى آخر الدهر في العُدوتين من مؤمن وكافر وبَرّ وفاجر، فكيف يستقيم لكم بعد المعرفة بتصرّفاتكم حازم، أو يثق بكم في قول أو فعل صالح أو طالح؟ ولو كان قد بَقي لكم من العقل ما تتفكّرون به في الكيفية التي خَتمتمُ بها عملكم بالأندلس من الزيادة في المغرم، وغير ذلك مما لكم وزره ووزر من عمل به بعدكم إلى يوم القيامة، حسبما ثبت في (الصحيح)؛ لحملَكم على مواصلة الحُزن، وملازمة الأسف والندم على ما أوقعتم فيه نفسكم الأمّارة من التورّط والتنشّب في أشطان الآمال ودسائس الشيطان، ونعوذ بالله من شرور الأنفس وسيئات الأعمال.
وأما قولكم عن فلان: (إنه كان حشرة في قلوب اللوز)، و(إن فلاناً كان برغوثاً في تراب الخمول) فكلام سفساف، يقال لكم من الجواب عليه: أنتم يا هذا، أين كنتم منذ خمسين سنة مثلاً؟ خَلَقَ الله الخلق لا استظهاراً بهم ولا استكثاراً، وأنشأهم كما قدَّر أحوالاً وأطواراً، واستخلفهم في الأرض بعد أمّة أمماً وبعد عصر أعصاراً، وكلفهم شرائعه وأحكامه ولم يتركهم هَمَلاً، وأمرهم ونهاهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13) سورة الحجرات.. وبكل اعتبار فلا نَعلم في نَمَط الطلبة تدريجاً كان أسمج من تدريجكم، ونبدأ من كذا فإنه كان كذا، وأكثر أهل زمانه تَحَمُّلاً وتَقَلُّلاً في نفسه بالنسبة إلى منصبه كان الشيخ أبو الحسن ابن الجَيّاب، ولكنه حين عَلِم، رحمه الله تعالى، من نشأتكم وحالتكم ما عَلِم نبذ مصاهرتكم وصرف عليكم صداقكم، وكذلك فعلتْ بنت جُزَيّ زوج الرهيصي معكم، حسبما هو مشهور في بلدكم.. وذكرتم أنكم ما زلتم من أهل الغِنى حيثُ نَفرتُم بذكر العَرَض وهو بفتح العين والراء حطام الدنيا على ما حكى أبو عُبَيْد، وقال أبو زيد: هو بسكون الراء المال الذي لا ذهب فيه ولا فضّة، وأي مال خالص يُعْلَم لكم أو لأبيكم بعد الخروج من الثّقاف على ما كان قد تبقّى عنده من مَجْبى قرية مترايل؟ ثم من العدد الذي بَرز قبلكم أيام كانت أشغال الطعام بيدكم على ما شَهد به الجمهور من أصحابكم.. وأمّا الفلاحة التي أشرتم إليها فلا حَقَّ لكم فيها؛ إذ هي في الحقيقة لبيت مال المسلمين، مع ما بيدكم على ما تقرّر في الفقهيّات، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حِسّاً، ولو قبل من أهل المعرفة بكم بعض ما لديهم من سقطاتكم في القال والقيل، ولم يصرف إلى دفع معرّتها عنكم وجه التأويل، لكانت مسألتكم ثانية لمسألة أبي الخير، بل أبي الشرّ، الحادثة أيام خلافة الحَكَم، المسطورة في نوازل أبي الأصبغ ابن سهل، فاعلموا ذلك، ولا تهملوا إشارتي عليكم قديماً وحديثاً بلزوم الصلوات، وحضور الجماعات، وفعل الخيرات، والعمل على التخلّص من التبعات {وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (33) سورة لقمان.
وقلتم في كتابكم: (أين الخطط المتوارثة عن الآباء والأجداد؟).. وقد أذهب اللهُ عَنّا ببركة المِلّة المحمدية عُِبِّيَّة الجاهلية في التفاخر بالآباء، ولكني أقول لكم على جهة المقابلة لكلامكم: إنْ كانت الإشارة إلى المجيب بهذا، فمن المعلوم المتحقّق عند أفاضل الناس أنه - من حيثُ الأصالة أحدُ أماثل قطره، قال القاضي أبو عبدالله ابن عَسْكَر، وقد ذكر في كتابه (عن تاريخ مالقة) من سلفي فلان بن فلان، ما نصّه: (وبيته بيت قضاء وعِلْم وجلالة، لم يزالوا يرثون ذلك كابراً عن كابر، استقضى جدّه المنصورُ ابن أبي عامر).. وقاله غيره وغيره، وبيدي من عهود الخلفاء وصُكوك الأمراء المكتتبة بخطوط أيديهم مِن لَدُن فتح جزيرة الأندلس وإلى هذا العهد القريب ما تقوم به الحُجّة القاطعة للسان الحاسد والجاحد، والمنّة لله وحده.. وإنْ كانت الإشارة للغير من الأصحاب في الوقت، حفظهم الله، فكل واحد منهم إذا نُظر إليه بعين الحقّ وُجِدَ أقربَ منكم نَسباً للخطط المعتبرة، وأَوْلَى بميراثها بالفرض والتعصيب، أو مساوياً على فرض المسامحة لكم.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره.. حرام دمه وماله وعِرضه).
ونرجع إلى طريقة أخرى فنقول: مَن كان يا فلان من قومكم في عمود نَسبكم نَبيهاً مشهوراً، أو كاتباً قبلكم معروفاً، أو شاعراً مطبوعاً، أو رجلاً نَبيهاً مذكوراً؟ ولو كان يا لوشي وكان، لكان من الواجب الرجوع التناصف والتواصل والتواضع، وترك التحاسد والتباغض والتقاطع (إنّ الله لا يَنظر إلى صوركم وأبدانكم، ولكن يَنظر إلى قلوبكم وأعمالكم).. وكذلك العجب كل العجب من تسميتكم الخرِبات التي شرعتم في بنائها بدار السلامة، وهيهات هيهات، المعروف من الدنيا أنها دار بَلاء وجَلاء وعَناء وفَناء، ولو لم يكن من الموعظة الواقعة بتلك الدار في الوقت إلا موت سعيدكم عند دخولها، لأغناكم عن العلم اليقين بمآلها.
وأظهرتم سروراً كثيراً بما قلتم إنكم نلتم، حيثُ أنتم، من الشهوات التي ذكرتم أنّ منها الإكثار من الأكل والخِرَق والقعود بإزاء جارية الماء على نطع الجلد! والإمساك أَوْلَى بالجواب على هذا الفصل، فلا خفاء بما فيه من الخسّة والخبائث والخبث.. وبالجملة، فسرور العاقل إنما يَنبغي أنْ يكون بما يَجمل تقدّمه من زاد التقوى للدار الباقية، فما العيش - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا عيش الآخرة.. فقدِّموا إنْ قَبِلْتُمْ وَصَاة الحبيب أو البغيض بعضاً عسى أن يكون لكم، ولا تخلفوا كَلاًّ يكون عليكم.
هذا الذي قلته لكم، وإنْ كان لدى مَن يَقف عليه من نَمَطِهِ الكثير، فهو باعتبار المكان وما مرّ من الزمان في حَيّز اليسير، وهو في نفسه قول حَقّ وصدق، ومستندُ أكثره كتابُ الله وسنّة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر أنبيائه، فاحمدوا الله العليّ العظيم على تذكيركم به؛ إذ هو جارٍ مَجرى النصيحة الصريحة، يَسّرني الله وإيّاكم لليُسرى، وجعلنا ممن ذُكِّرَ فانتفع بالذِّكرى، والسلام) انتهى كلام القاضي النُّباهيّ.
قال عبدالرحمن بن محمد: والله إنّ هذه الرسالة لا تَصْدر من حَمّار ابن حَمّار يُنظِّف بيديه أرحام الحمير، بعد أن يُحكِم بالدُّهْنِ إقحامها (كما وصفه لسان الدين)!!.
(2) الكاتب أبو عبدالله محمد بن يوسف بن زَمْرَك:
ترجم له لسان الدين بن الخطيب في (الإحاطة في أخبار غرناطة) 2-300- 314، أيام رضاه عنه، وأورد مجموعة من شعره ونثره، ونقلها المقّريّ في (نَفْح الطيب) 7/ 145- 160، قال لسان الدين: (محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف بن محمد الصَّريحيّ: يكنّى أبا عبدالله، ويُعرَف بابن زَمْرَك، أصله من شرق الأندلس، وسكن سلفهُ رَبَض البَيّازين من غرناطة، وبه وُلِدَ ونشأ، وهو من مفاخره.
هذا الفاضل صدر من صدور طلبة الأندلس وأفراد نُجبَائها، مختصر، مقبول، هشٌّ، خَلوب، عذب الفكاهة، حلو المجالسة، حَسن التوقيع، خفيف الروح، عظيم الانطباع، شَرِه المذاكرة، فَطِن بالمعاريض، حاضر الجواب، شُعْلة من شُعل الذكاء، تكاد تَحْتَدم جوانبه، كثير الرقة، فَكِه، غَزِل، مع حياء وحشمة، جوادٌ بما في يده، مشارك لإخوانه.. نشأ عَفّاً، طاهراً، كَلِفاً بالقراءة، عظيم الدُّؤوب، ثاقب الذهن، أصيل الحفظ، ظاهر النبل، بعيد مدى الإدراك، جيِّد الفهم، فاشتهر فضله، وذاع أرَجُه، وفشا خبره، واضطلع بكثير من الأغراض، وشارك في جُملة من الفنون، وأصبح مُتَلقِّف كُرَة البحث، وصارخ الحَلْقة، وسابق الحَلْبة، ومظنّة الكمال.. ثم ترقى في دَرَج المعرفة والاضطلاع، وخاض لجّة الحفظ، وركض قلم التقييد والتسويد والتعليق، ونصب نفسه للناس، متكلماً فوق الكرسي المنصوب وبين الحَفْل المجموع، مُستظهراً بالفنون التي بَعُدَ فيها شأوُه، من العربية والبيان واللغة، وما يقذف به في لُجّ النقل، من الأخبار والتفسير.. متشوِّفاً مع ذلك إلى السُّلوك، مصاحباً للصُّوفية، آخذاً نفسه بارتياضٍ ومجاهدة، ثم عانى الأدب، فكان أمْلَك به، وأعمل الرِّحلة في طلب العلم والازدياد، وترقَّى إلى الكتابة، عن وَلَدِ السلطان أمير المسلمين بالمغرب، أبي سالم إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب، ثم عن السلطان، وعُرِفَ في باب الإجادة.. ولما جَرَت الحادثة على السلطان صاحب الأمر بالأندلس، واستقرَّ بالمغرب، أنس به، وانقطع إليه، وكَرَّ صحبة رِكابه، إلى استرجاع حقه، فَلَطُفَ منه محلُّه، وخصَّه بكتابة سرِّه.. وثابَت الحال، ودالت الدولة، وكانت له الطايلة، فأقرَّه على رسمه، معروف الانقطاع والصاغية، كثير الدالة، مضطلعاً بالخُطَّة، خطّاً وإنشاءً ولسناً ونقداً، فحسُن منابُه، واشتهر فضله، وظهرت مشاركته، وحَسُنت وساطته ووَسِع الناس تخلُّقه، وأرضى السلطان حَمْله، وامتد في ميدان النثر والنظم باعُه، فصدر عنه من المنظوم في أمداحه، قصائد بعيدة الشأْو في مَدَى الإجادة (...) وهو بحاله الموصوفة إلى الآن، أعانه الله وسدّده).
وتأتي التفاهة الساقطة في (الكتيبة الكامنة) ص282- 288، يقول: (الكاتب أبو عبدالله محمد بن يوسف بن زَمْرَك: (من أهل (رَبَض البَيّازين) من غرناطة، هذا الرجيّل والتصغير على أصله، وإن لم يعب السهم صغر نصله، مخلوقٌ من مكيدة وحذر، ومفطور اللسان على هذيان وهذر، خبيث إن شَكَر، خَدَعَ ومَكَرَ، ودَسَّ في الصفو العكر، وإن رمى وأقصد، فالله أعلم بما قصد، إلا أنه ثانٍ في البخت لبختنصر، عند من اعتبر وتبصّر، بينما هو في المطبخ يعمل البرم، ويشعل الضرم، إذا به يفترش السندس، ويفتح بسيفه القدس، فيذبح الجزر السدس، ولا يساوي في الإبقاء السدس، كأن الفلك بأطوار هذه الناشئة تطور، أو الزمان أكل المسح فتهور، فعهدي به يرشح أبناءه ويدرّج، وعلى الرسم المعتاد يعرّج، فوثب على الفور، من النجد إلى الغور، مما يوهم تمام الدور، وانقضاء الطور، إلى الاستحداد، برئاسة القلم والمداد، وإنْ نفذ القدر والمكتوب، فأنا المعتوب؛ إذ اصطنعته وروّجته، ولغيري ما أحوجته، فاتبع الطريقة، وغاص بلجّها فاستخرج الدرر الغريقة، وانفرد بخفة الروح، مع دماثة اليبروح، فهو اليوم لولا النشأة الشائنة، والذمامة البائنة، صدر العصبة، ونيّر تلك النصبة، وآدابه مستميلة، ومحاضرته خميلة، وخلقه لولا الخبث والغدر جميلة، ينظم وينثر، وعلى القيود يعثر، وأكثر إجادته في القصائد التي تطول، ويلوي بدينها الطبع المطول، وبينه وبين معاصريه مداعبات في غلام له غريب، جعله مرمى غزل ونسيب، وصَرَفَ إلى ذِكره ذِكرى جنيب، تشعشع كؤوس الأنيس كلما جليت، وتقلّد ليالي الفكاهة بلآليها إذا حليت) ومضى بعد ذلك في الاتهامات الماجنة باللواط.
وقد عَرّض ابن زَمْرَك بخيانة لسان الدين بن الخطيب في أكثر من قصيدة في مدح الغني بالله، ومن ذلك قوله من قصيدة:
****


وسام أعداءك الأشْقَيْنَ ما كسبوا
ومَن تَردَّى رداءَ الغدرِ أرداهُ
قل للذي رمِدَتْ جهلاً بصيرتُهُ
فلم ترَ الشمسَ، شمسَ الهدي، عيناهُ
غَطّى الهوى عقلَه حتى إذا ظهرتْ
لهُ المراشدُ أعشاهُ وأعماهُ
هل عندهُ وذنوبُ الغدرِ تُوبِقُهُ
أن الذي قد كساه العزَّ أعراهُ
لو كان يشكرُ ما أَوليتَ من نِعَمٍ
ما زلتَ ملجأه الأحمى ومنجاه

***
وقال من قصيدة أخرى:


قولوا لقردٍ في الوزارةِ غَرَّه
حلمٌ مننتَ به على مقدارِ
أسكنته من فاسَ جنّةَ ملكها
متنعماً منها بدار قرارِ
حتى إذا كَفَر الصنيعةَ وازدرى
بحُقُوقِها ألحقَتْهُ بالنارِ
جرَّعت نجل الكأس كأساً مُرَّةً
دَسَّتْ إليه الحَتْفَ في الإسكارِ
كَفَرَ الذي أوليته من نِعمةٍ
لا تأنسُ النعماءُ بالكفّارِ
فطرحته طَرْحَ النواةِ فلم يفزْ
من عزِّ مغربِهِ بغير فرارِ

***
وقال من أخرى:


هذا وزيرُ الغربِ عبدٌ آبقٌ
لم يلفِ غيرك في الشدائد من وَزَرْ
كَفَرَ الذي أوليته من نِعمةٍ
والله قد حَتَمَ العذابَ لمن كَفَرْ
إنْ لم يمتْ بالسيفِ ماتَ بغيظهِ
وصَلى سعيراً للتأسفِ والفِكَرْ
ركبَ الفرارَ مطيَّةً يَنجو بها
فجرتْ به حتى استقرَّ على سَقَرْ
وكذا أبوه وكان منه حِمامهُ
قد حُمَّ وهو من الحياة على غَرَرْ
بلغته واللهُ أكبرُ شاهدٍ
ما شاء من وطنٍ يعزُّ ومن وَطَرْ
حتى إذا جَحَدَ الذي أوليتهُ
لم تُبْقِ منهُ الحادثاتُ ولم تَذَرْ
في حاله واللهِ أعْظَمُ عِبرةٍ
للهِ عبدٌ في القضاء قد اعْتَبَرْ
فاصبر تَنَلْ أمثالها في مثله
إن العواقبَ في الأمور لمن صَبَرْ

وانظر تلك القصائد في (نَفْح الطيب) 5-169-180

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved