Saturday 3rd June,200612301العددالسبت 7 ,جمادى الاولى 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"محليــات"

دفق قلم دفق قلم
بين النقد والشعر
عبدالرحمن صالح العشماوي

مَنْ يتتبَّع مآخذ النقاد على الشعراء يجد فيها من الطرافة، والإمتاع ما يمكن أن يكون سبباً في إراحة قلبه، وإضحاك ثغره، مع ما في ذلك من فوائد متعدِّدة، في اللغة، والأسلوب، والبلاغة وغيرها.
ذلك أنه ربما يفوت على الشاعر المعنى الجيد، فيجنح إلى المعنى الرديء، وربما يفوته اللفظ المناسب إلى لفظٍ غير مناسب، وربما ينقل معلومةً خاطئةً وهو لا يدري، وعينُ الناقد تتابع شعر الشاعر متابعةً دقيقةً، فتقع على سلبيَّات ما كان ليفطن إليها الشاعر، ولا قراء شعره لولا إشارة الناقد، هذا إذا حرص الناقد على ما يفيد، ولم يستسلم لهوى نفسه، وجموح عاطفته.
قال الأصمعي: قرأتُ شعراً لجرير على الرّاوية (خلف الأحمر) فلما بلغتُ قوله:


ويومٍ كإبهام القَطاةِ محبَّبٍ
إليَّ هواه غالبٍ ليَ باطلُهْ
فيالَك يوماً خيرُه قبل شرِّه
تغيَّبَ واشيه وأقصرَ عاذلُهْ

قال خلف: ويلَ جرير! وما ينفعه يومٌ خيرُه يَؤُول إلى شرّ؟
قال الأصمعي، فقلت لخلف: لقد قرأت البيت بهذه الصورة على الناقد أبي عمرو بن العلاء، قال خلف: صَدَقْتَ، وهكذا قال جرير بيته، وكان جريرٌ قليلَ التنقيح لشعره وكانت ألفاظُه مشرَّدة.
قال الأصمعي: فكيف كان يجب أن يقول جرير؟


قال خلف: الأجود له أن يقول
فيالَك يوماً خيرُه دونَ شرِّه

لأن المعنى هنا أنَّ الخير في ذلك اليوم حال دون الشرِّ، وأما بوضع كلمة (قبل) فإن المعنى يكون على ما يلي:
إنَّ الشرَّ في هذا اليوم سيأتي بعد الخير، وهذا ما لم يُرِدْه جرير، ومالا يتحقق معه المدح لذلك اليوم.
ومن طرائف عثرات شعر جرير قوله:


صارت حنيفةُ أثلاثاً، فثُلْثُهُم
من العبيد، وثُلْثٌ من مواليها

وقد سُئل رجل من حنيفة: من أيِّ الأثلاث أنت؟ فضحك قائلاً: من الثلث الذي لم يذكره الشاعر، فهو قال (أثلاث) ولم يذكر إلاَّ ثلثين، وأقول: لقد أفسد هذا التثليث جمال البيت بصورة لا تخفى على المتذوِّق.
ومن طرائف ذلك ما روى المرزباني في كتابه (الموشّح) من أنَّ امرأةً لقيت الشاعر كُثيِّر عزَّة فقالت: هل أنت القائل:


فما روضةٌ بالحَزْنِ طيِّبةِ الثرى
يَمُجُّ النَّدَى جَثْجَاثُها وعَرَارُها
بأطيبَ من أثوابِ عزَّةَ مَوْهِناً
إذا أُوْقِدَتْ بالمَنَدلِ الرَّطْبِ نارُها

قال كثيِّر متباهياً: نعم، أنا قائل ذلك، قالت: فَضَّ اللهُ فاك، فما أحسنت في وصفها، أرأيت لو أنَّ ميمونة الزنجيَّة بُخِّرَتْ بالمَنْدل، أَمَا كانت تطيب رائحتُها؟! ألا قلتَ كما قال سيِّدك في الشعر امرؤ القيس:


ألم تَرَ أني كلَّما جئتُ طارقاً
وجدتُ بها طِيْباً وإنْ لم تَطيَّبِ

فخجل كثيِّرُ من كلامها، وعرف موقع خطئه.
أما الجَثْجَاث والعَرار فهما نباتان صحراويان طيِّبا الرائحة، وأما المَنْدل فهو (العود) الهندي.
ومن طرائف ذلك ما رواه الأصمعي بقوله: أنشدتُ هارون الرشيد أبياتاً للنابغة الجعديّ، فلما بلغْتُ قوله:


أَشَمُّ، طويلُ الساعدين شَمَرْدَلٌ
إذا لم يَرُحْ للمجد أصبح غاديا

قال الرشيد: وَيْلَه، لماذا لم يَرُحْ في المجد كما غَدا فيه؟ لقد أخطأ الشاعر، ألا قال:
إذا راح للمعروف أصبح غاديا
فهذا مناسب للمدح، قال الأصمعي: فقلت: أنت يا أمير المؤمنين في هذا أعلم بالشعر.
وهكذا تظلُّ ملاحقة النقاد للشعراء مصدراً من مصادر طرافة الأدب وإمتاعه.
إشارة:


يموت رَديءُ الشعر من قبل أهله
وجيِّده يبقى وإنْ ماتَ قائلُهْ

www.awfaz.com

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved