كنكوردات جمع (كنكورد) و(كنكورد) هي طائرة الركاب الأسرع من الصوت التي أحيلت للتقاعد بعد ثلاثة عقود من الخدمة. كانت الكنكورد تقطع المسافة بين لندن ونيويورك في ثلاث ساعات، نصف المدة التي تقطعها فيها أي طائرة ركاب أخرى. لم يتفوق عليها في السرعة حتى الآن سوى الطيران الحربي ومجموعة (جذوع وعسبان النخل) التي كانت تعمل في زمن مضى على خط الرياض - شواطئ الخليج. ذهاباً وإياباً.
قدر لي مع مجموعة من الأصدقاء أن نسهر حتى الساعة الواحدة صباحاً في نادٍ رياضي بشارع الوزير. كانت المرة الأولى التي أسهر فيها حتى هذا الوقت خارج البيت. لكي نختصر الطريق أثناء العودة دخلنا شلقا. وهو حي لا يقطنه سوى عمال النظافة وهم خليط من جنسيات مختلفة. يشكلون فيه مجتمعا إنسانيا معزولا عن بقية سكان الرياض. مجموعة من البيوت والصنادق والعشش الشعوائية، ممراته ضيقة وملتوية توحي بالكآبة والعزلة. عندما سرنا فيه شعرنا كأن هناك شيئا يتربص بنا خارج الحس الإنساني. مضايقات من كائنات غير مرئية. نشعر أن هناك من يعرقلك أو يعترض طريقك أو يتنفس في وجهك. والبيوت تفتح وتغلق لأسباب مجهولة. لم ينتابنا الخوف إلا بعد أن أصبحنا في قلب شلقا. في ساحة منخفضة تمتلئ بعدد كبير من جذوع النخل والعسبان. شاهدنا عددا من الرجال يصطفون بالقرب من باب كبير ما أن لمحونا حتى تفرقوا بسرعة وحذر. خلال ثوانٍ أصبحت الساحة خالية إلا من امرأة سوداء مسنة تجلس بقرب باب مصنوع من مادة معدنية (تنك مفرود وموصل بعضه ببعض). لم يكن الرجال في وضع يشي بأنهم يسمرون. كان أكثرهم يحمل معه شنطة صغيرة أو لفافة (بقشة) . كانوا في ملابس رسمية. كأنهم على وشك الرحيل.
هناك عدة طرق في اتجاهات مختلفة تصب في الساحة وتخرج منها. احترنا. ضاعت قدرتنا على تقدير المسافات والاتجاهات. حتى الطريق الذي جئنا منه فقدناه. كنا نرى الأشياء بوضوح معقول. دون توفر مصدر للضوء. كأننا نعيش رؤيا الفجر الشفافة مع أننا في وسط الليل الدامس. تضارب الآراء جعلنا نتجمد في وسط الساحة. ما زالت الأبواب المتراصة على الساحة تفتح وتغلق كأنها تتحرك بشكل أوتوماتيكي. شعرنا أننا أفسدنا شيئاً كان سيحدث. وللهروب من الوضع الغريب اتفقنا أن نسأل المرأة العجوز عن الطريق الصحيح المؤدي إلى شارع الظهيرة دون أن نمر على المقبرة المحاذية. عندما اقتربنا منها وبالكاد سنطرح عليها السؤال اختفت. لو كنت وحدي لظننت أن المشكلة في عقلي. أو أن الخوف صور لي أن هناك امرأة عجوزا سوداء كانت تجلس أمام باب الصفيح. لكنها كانت حقيقة من الصعب إنكارها. شهودها ثلاثة شباب مازالوا أحياء. جرت هذه الحادثة قبل خمسة وثلاثين سنة.. قبل سنوات قليلة من تدشين طائرة الكونكورد في باريس ولندن. كنا نسمع أن هناك طائرات أسرع من الصوت دون أن نعرف ما الذي يعنيه هذا القياس. فلو لا معرفتنا بالسرعة الحديثة التي وفرتها تكنولوجيا السيارات لكان الأمر بالنسبة لنا ضربا من السحر وربطناه بحكايات جذوع النخل والعسبان التي تقل الركاب من الرياض إلى سواحل الخليج القصية في أجزاء من الثانية.
كان الناس في الرياض يتناقلون أخباراً عن رحلات سفر يومية تقلع من شلقا وتعود إليها. لم يأت من يؤكدها أو ينفيها. فالناس في الرياض تتجنب الدخول أو المرور من حي شلقا . كنا أول ناس من سكان الرياض تتوغل في هذا الحي حتى تصل إلى تلك الساحة المليئة بالجذوع والعسبان. لم يكن لدينا متسع من الوقت أو الطمأنينة لكي نسأل عن سبب تجميع هذا الكمية الكبيرة من جذوع النخل في هذا المكان بالذات. كانت تعرقل السير وتضيق المكان. كل الفراغات مليئة بالعسبان ما عدا مساحة صغيرة أمام الباب الذي كانت تقف أمامه العجوز. تجمعنا في هذه المساحة في انتظار أن تخرج العجوز من البيت. كان تقديرنا أن المرأة العجوز دخلت البيت عندما شاهدتنا. شيء طبيعي أن تختفي المرأة عندما تشاهد مجموعة من الغرباء في مكان معزول كهذا. لكنها تركت بابها مفتوحا. اقتربنا من الباب وطرقناه بهدوء. لم يجب أحد. كررنا ذلك أكثر من مرة ونادينا: يا أهل البيت. بدا البيت في غاية السكينة. دفعنا الباب. دخلنا خطوة خطوة. كان المدخل (المجبب) ضيقا وطويلا أرضيته ترابية مرشوشة بالماء. في آخره زير. وقفنا أمام الزير وقبل أن ننعطف إلى داخل البيت ظهرت أمامنا ديوانية صغيرة مفروشة بحصير. مليئة بأوانٍ منزلية مبعثرة في كل الأنحاء. بطريقة تشي أن ربة البيت لا تعرف أي شيء عن الترتيب والتنظيم. أو أن أحداً بعثرها خوفاً أو ارتباكاً. قبل أن ننتهي من التأمل في الديوانية رفع أحد أصدقائي رأسه وصرخ: شوفوا. رفعنا رؤوسنا. شاهدنا المرأة العجوز السوداء تحلق في فضاء الديوانية عارية تماماً. فتقدم أحد الأصدقاء الثلاثة والتقط الحصير وراح يطاردها يريد ان يستر عورتها.
البقية بعد غد
|