أزمتنا الفكرية مع المصطلحات التي تسللت من المناهج الغربية إلى عقولنا وشاعت في كتاباتنا، لا تنحصر في (المستغربين) من الكٌتاب العرب الذين جعلوها (علكة) ماسخة يلوكونها ترديداً دون أدنى اعتبار لمحتواها المفاهيمي، واقتلاعها بشكل قسري من الأسس الفلسفية التي تندرج في سياقها التاريخي.
وإنما تتفاقم خطورة هذا الاستعمال العشوائي للمصطلحات في توظيف كتاب تيار الإسلام السياسي لها.
وهذا وجه لا يقل خطورة بأي حال من الأحوال، وإن كان المرء ليظنه أخطر من ذلك الدور الذي يلعبه تيار العرب الغربيين.
فإذا كان هؤلاء يزرعون هذه المصطلحات بطريقة تساعد على غزونا من الدخول عبر بوابتها، مما يؤدي إلى هدم منظومة القيم التي يتأسس عليها كامل نمط هويتنا، فإن أصحاب تيار الإسلام السياسي يقومون بإعادة إنتاجها وفق رؤاهم ومنطلقاتهم الفكرية والسياسية الخاصة، ويشحنونها بمفاهيم خاصة بنسقهم الفكري، لتوظيفها بعد ذلك في خطابهم السياسي بما يحقق له السيطرة. والإقصاء، بل القضاء المبرم على الخطابات الأخرى.
وهم بعلمهم هذا يجعلون الإسلام في حالة خصام وتناقض مع المفاهيم التي تحملها هذه المصطلحات، مفاهيم الديمقراطية أو الحداثة والتطور والمجتمع المدني، فيبدو الإسلام وكأنه عدو ونقيض لهذه المصطلحات، وهم إذ يفعلون ذلك، يتكئون على فتاوى يطرحها بجرأة - غير محمودة - من لم يتفقه لا في أمور الدين ولا علوم الدنيا، فيكفرون كل من خالفهم الرأي، وقد رأينا من حصاد غرسهم الفكري المتطرف المغالي قتلاً وتدميراً ما يغني عن إعادة وتكرار الحديث عن مدى خطورة وفساد فكرهم، أولئك يؤكدون بترديدهم هذه المصطلحات لنا، بأننا متخلفون ما لم نأخذ بها على عمى ودون تبصر، وحين نأخذها بطريقتهم هذه سنفقد هويتنا، وهؤلاء يعيدون إنتاجها مشوهة، ثم يحذروننا منها - دون وعي أو فهم - باعتبارها مفاسد نجترعها تستوجب تكفيرنا مجتمعات ودولاً، ثم يقومون بقتلنا تقرباً إلى الله وامتثالاً لواجب الجهاد، ليس لأننا أخذنا بها ولكن لأننا لم نستجب بتولية أمرنا لهم، فيرجمون مسلماً بصفة علماني أو ليبرالي أو حداثي ليستحلوا دمه.
ومرة أخرى: ماذا نحن فاعلون؟
للوهلة الأولى يبدو وكأنه لا خروج من هذا المأزق رغم سهولة ذلك بديهيته، لأن الله سبحانه وتعالى وضعه بين أيدينا وأيدي جميع الأمم في كتابه الكريم وقام بتفصيلة البشير الهادي عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم في سنته المطهرة.. ألا وهو: التوسط. والتوسط بالضرورة يعني إقامة القسط بين كفتي ميزان.
وهذا التوازن بين الأخذ والعطاء يستدعي أعمال الفكر، والتفكير كما يقول عباس محمود العقاد فريضة إسلامية، إذ تكاد سور القرآن كلها أن تكون دعوة للتفكير والتدبر والتعقل والفهم.
وهذا التوازن يعني ألا نبسط أكف عقولنا كل البسط فنعدو مذمومين محسرين، وألا نقبضها كل القبض فتغدوّ مغلولة.. القاعدة الإستراتيجية عوان بين ذلك.
وهذا الأمر ينطبق على كل شأن من شؤون الحياة.
وهذه المساحة من التفكر والتعقل والتدبر تتيح لنا تفحص كل ما يردنا من الغرب، فنأخذ ما يفيدنا ونطرح ما يضرنا، ونعدِّل ونغير فيه بما يتواءم ولا يتناقض مع هويتنا وثوابتنا، وبما يخدم مصلحتنا في الرقي والتطور.
وهذا فيما أظن باب واسع يحتاج إلى تفصيل.
(*) أكاديمي وكاتب سعودي
|