Thursday 1st June,200612299العددالخميس 5 ,جمادى الاولى 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

لقطات سياحية بين الساحل الشرقي والساحل الغربي لقطات سياحية بين الساحل الشرقي والساحل الغربي
د. فوزية أبو خالد

الساحل الشرقي...
* تداريت بالجدار الكالح، ونفضت عباءتي عدة مرات خشية أن تكون علقت بها إحدى الخنافس البنفسجية أو السوداء التي كانت تزحف بأمان وفضول على (الحصيرة) التي مددناها في ظهر إحدى الاستراحات الرثة والنادرة على الطريق السريع.. الرياض- المنطقة الشرقية.. طريق ممكننة، ومحطات يدوية، رياح متحركة، ومواقع ساكنة، أكف ضارعة، وسماء بعيدة، مسافات طويلة ومدى مادون القصير، شوارع مضاءة، عدسات معتمة، أسفلت ساخن، وأقدام باردة .... باردة.. باردة يقطر منها العرق أو الطل أو الوحل في قاع العين أو في القاع الذي ليس له قاع.
مددت بصري وتلصصت من شقوق الجدار.... سرر صدئة، فرش مبتلة بالندى وعرق العابرين، (صفة) أباريق الشاي الحالك، و(شيش) بردت رؤوسها، تلفزيون، والإعلانات التجارية ترج خشب الطاولة المتآكل والأحلام الصغيرة في الجماجم، موسيقى الإعلانات، إخراج الإعلانات، نجوم الإعلانات، بضائع الإعلانات تبدو غريبةً نشازاً في الجو الأليف المتثائب.
* تغني الطفلة لأخيها الطفل ليشاغبا وحشةَ الطريق، ونشرةَ الأخبار الإذاعية، وليكسرا رتابةَ عداد السيارة....... تغني الطفلة.... أخي أنت مرآتي السحرية أنظرُ إليك أرى دلفين بري.. أنظرُ إلى وجهك أرى غزال البحر.. أنظرُ إليك أرى مستقبلاً أو حلماً.... يضحك الطفل يضحك... تصبح ضحكته جزءاً من (النشيدة) تواصل الطفلة غناءها، أنظرُ إليك أرى طريقاً مشجراً وأسمع صوت الأمواج.
أمام ميزان الكفرات عامل بين الجدار المشحم بالدهون والعرق وصديد السجائر في الصور، وبين معدن أواني الزيوت المزينة بالماركات.... شل، بترومين، الثياب البيضاء تهف لفح هبوب الأسد قبل أن يقبل، الغتر الطوال تعكس ما تبقى من شمس العصاري على الجهة المعاكسة وعامل الميزان الذي لم أستطعْ أن أحزر جنسيته يطبق شفتيه على عقب اللفافة التي لم تعد مشتعلة، أصابعه الثلاثة عشر مشكوكة في البراغي، كانت الكرة الأرضية تدور مسرعة تقطر آخر ساعات النهار، كان الشفق يقطر بدايات متعددة، كانت (وزرة) عمال الميزان تقطر زيوتاً لامعة لحاهم المهملة الموشاة ببياض ضائع تقطر، عصابات رؤوسهم تقطر، خُيِّلَ إليَّ أن سواد حدقاتهم كان يقطر.... يقطر..... يقطر ويضيع في التجاعيد الغامقة أو في حمرة التراب الدهنائي الفاقعة. لم أكن أستطعْ أن أميز من خلف سواد (الشيلة) وزجاج السيارة المغبش بسحوق الغبار الخفيف لون شلالات تلك القطرات ولكن كلما ابتعدنا كان إيقاع اللون في تلك اللقطة يقطر..... يقطر... يقطر... كبرد على حجر أو عظمة ترقوة.
* كفرس حزرت رائحة المطر فاشرأبت... استفزتنا رائحة البحر، شققنا الظلمة الكائنة في تلك اللحظة بالزرقة المتخيلة في اللحظة نفسها، حككنا الغبار المتكلس في قاع المسام بالرذاذ المتطاير في الموج الطائش من الذاكرة، ككل المناطق الساحلية في العالم ككل الفاتنات في القارات تطل المنطقة الشرقية تسبقها فتنتها ودقات قلبها في اللقاء المتوقع كما في اللقاء المفاجئ.
في الدوار بين ملاحة الأرض وسكانها وبين ملوحة البحر وسكنياته (جنياته) نطلب زجاجة ماء ونفوق بفعل تسعيرة الفنادق لزجاجة ماء واحدة.
الساحل الغربي...
كلما وصلت مطار جدة، مطار الملك عبدالعزيز المزدحم دائماً بالبشرية بألوانها وأجناسها وطبقاتها من تشاد حتى واشنطن.. ومن (كولومبيا) حتى يوكوهوما، وزاحمت الأمزجة المحتدة والروائح المختلطة واللغات المتعددة إلى رصيف المواقف تصفعني الصور الرومانسية التي كتبت وقيلت أو خيلت عن مدينة جدة... جدة الرخا... لا جدة الشدة.
وما بين صدمة الرطوبة (بعد هواء المطار المخفف بالمكيفات المركزية) واصطفاف سيارات الليموزين الأمريكي ومحاولات المنافسة المستحية التي يقوم بها سائقو التاكسي الياباني (المحلي)، وبين صدى السنين وحرارة الأسفلت وتعامد الشمس واصطخاب مرافق المطار وما حوله بحركة الحجاج وأواني طبخهم وشخير رقادهم أو تثاؤب انتظارهم وانشغالهم بالتسويق أو التسوق، تنسحق تلك الصور الرومانسية الناعمة لمدينة جدة وتتناثر ملايين الشظايا التي تشبه كمين ألغام، لتكشف في جدة وحشتها الطازجة وجمالها الوحشي الذي ما تخيله رومانسي أو سريالي بها، هامَ بجدة في قصائد الشعراء أو في الكتب أو في أحاديث السياح العابرين إلى المحطات الأبعد أو في ذهول مَنْ لم يروا من باريس إلا عنيزة، ولم يروا من فرنسا إلا الشانزليزيه.
وأراني أمام الواقع ينسل في حواسي مثل سم مصفى يقشع بخار كأس مغبشة من اللحظة الأولى التي تهاجم رائحة البحر روحي أسأل الذين لا يرون في جدة إلا عروس البحر مثل ربات الأساطير لا تفقد شبابها ولا يشيب شعرها ولا يقوى على التحرش بها البحارة، أراني أتساءل في الذين لا يرون في جدة إلا الكورنيش والمجسمات الجمالية ومراكز التسوق الفارهة ونيون الإعلانات الباهظة على الطرقات، والكازنيوهات أو باعة التسالي من البليلة إلى الذرة والمكسرات إلى باعة الفول والترمس والنافع اللع يا حلبة!!
كيف يمكن أن نفتتن بنمنمات المجسمات الجمالية دون أن نشعر بتنميل إرهاق الأصابع التي نحتت حجارتها. كيف يمكن أن تحضرنا جدة دون أن نستحضر شدتها وماضيها الذي لا تظهره الكاميرا، بما فيه الكفاية، في مجسم الدوارق والزير وجرة الفول أو في مركاز القهوة والجراك المعسل أو في (أربطة الولايا) المرممة والشقق المفروشة أو فنادق الدرجة الأولى.
كيف نواجه جدة ، نعد عروق عنقها، نحدد علاماتها الفارقة، نندهش بغمازة خدها... إذا لم تجذبنا إلا الواجهات. وكما لا يستطيع (النيويوركي) ألا يرى في نيويورك إلا تمثال الحرية أو مبنى الأمم المتحدة ويغض وحشتها الكاسرة في زحمة ساحة روكفلر.
كما لو يستطيع الفلاح إلا أن يميز بين خضرة الحصاد ودودة الخضرة... وكما لا تستطيع امرأة أن تقصر إحساسها لحظة الولادة على متعة أن يصبح لها أبناء، تمتد جدة في شعوري ولا شعوري من أعماق الذاكرة والحاضر معاً، من صخب (البنقلة) وزبخة السمك و(فوط) الصيادين وجراح أيديهم التي تشبه حراشف الحوت أو الروح في شهقات الحق.. إلى باب شريف و(زنقة) المرور بحمولة النقل الجماعي ، من سوق الندى وسنديان الإسكافية (مرقعي الكنادر) ونثار المكتبات الصغيرة التي صارت قرطاسيات والأزقة التي لا تنتهي إلا إلى أزقة، إلى باب مكة وزحمة المُحرمين الكتف بالكتف واليد على (الكمر).
من مسجد الملك سعود وطريق المدينة الطالع، من عين العزيزية التي كانت تسقي جدة بحناطير الحمير إلى عذوبة التحلية التي كسرت ملوحة البحر، من توسعة مقبرة الرويس إلى لعبة الحجلة في الحارات إلى باب مجيد.
في مجاهل ارتجافات الذاكرة ومعالم الحاضر تجوب روحي تستلهم جماليات جدة التي لا يجربها إلا مَنْ انشطر بين جدة الرخاء وجدة الشدة.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد...

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved