لا أعرف بالضبط أين يقع مستشفى الإيمان. الوصف الوحيد الذي سمعته عنه أنه يقع بعد الكوبري الذي يؤدي إلى حراج بن قاسم والمسلخ وأخيراً إلى الحاير. شُوهد عبد الله نور للمرة الأخيرة عند بابه مغمى عليه فأودع فيه ليبقى ثلاثة أيام متتالية في الممر في انتظار أن يأتي من يأخذه إلى مكان آخر يبقي الحياة في جسده. بعد ذلك لا أحد يعلم ما هي التفاصيل التي حدثت. وبلا مبالاة رأى الناس خبراً صغيراً تافهاً في صحيفتي الجزيرة والرياض صيغ بطريقة مستعجلة كأنه يطلب العون لإنقاذه. بعد ذلك أعلن أن جهاز الرنين المغناطيسي لم يتوفر ولم يخلُ سرير في غرفة العناية المركزة ليموت على قائمة الانتظار في سيب المستشفى.
لا أحد ينتقي الموت الذي يناسبه، ولكن الموت يأتي مصداقاً للحياة التي عاشها الإنسان. عبد الله نور لم يختر شيئاً في حياته سوى أن يكون كاتباً. ترك بقية شؤون الحياة للصدفة ولشوارع الرياض التي توسعت فوق طاقة وجدانه. الرياض في ذهن عبد الله نور لا تتعدى ثلاثة أو أربعة شوارع فقط: السويلم والعطايف والثميري، وما جاد به الزمن بعد ذلك من شوارع وطرقات وناطحات سحاب لم تقرها روحه المسكونة بالسكيك والأزقة الضيقة. وسيلة المواصلات الوحيدة هي قدماه. كان يسير من أي مكان إلى أي مكان على قدميه، لا يرفض إذا طلبت أن توصله، ولكنه لا يهتم، لا أحد يعرف له سيارة، فهو لا يتحرك في الواقع وإنما في ذاكرته. المكان لم يكن يعني له شيئاً. قصر عشه رصيف. ذاكرته مسافاتها محدودة: من شمال المربع إلى حلة بن نصار، ومن طلعة الشميسي إلى المرقب. ما بعد ذلك يختلط بالأودية التي اختبأ بها الصعاليك، وبالأرض اليباب التي اخترعها تي إس إليوت، وبشوارع بغداد والأندلس والحي اللاتيني بباريس. إذا جلست معه يفرض عليك عالماً مخترعاً ممتداً عبر العصور كلها تشاهد فيه الشنفرى يجلس إلى جوار بول إيلوار، وابن عمار إلى جوار تي إس إليوت، وأبو نواس يتسامر مع ابن تيمية. ولن تستغرب إذا شاهدت بلجريف يخطب في شوارع الدرعية القديمة، وآن همند تغازل سعيد غراب. كل شيء ممكن. لا تأخذ منه حقيقة ثابتة. مجموعة متنوعة من القصائد والحكايات والقصص الشعبية والروايات والأسماء الغريبة والأوهام أقامت في داخل روحه قلعة ضخمة تحصَّن فيها بعيداً عن مرارة الواقع، صرحاً مهيباً يتساوى فيها الفشل مع النجاح، والموت مع الحياة، والصحو مع الغيبوبة، والحضور مع الغياب. كتب على قوانينها أن تزول مع أول استخدام, ثم يعاد كتابتها من جديد على أرض خاوية من أي استقرار. كان يردد قصائد فواز عيد دان دان، ثم يختمها بقصيدة عراقية يبدأها (سيدي لا تطلق كلابك..). يتمدد في المجلس يبسط جسده الناحل الطويل وعيناه تملأ المكان بشراسة وأحياناً بحب وأحياناً تجوبان بلا هدف أو تفسير. كنت أتمنى لو كنت بجواره لحظات موته، أريد أن أعرف إلى أين وصل جسده بعد أن دخل أعوامه السبعين. أول مرة شاهدته فيها كان أكبر مني، وآخر مرة شاهدته فيها أصبحت أكبر منه. جسد لا يكبر أبداً تم تثبيته في عمر الأربعين.
بموت عبد الله نور تموت فترة بدأت مع بداية الستينيات وتوقفت مع نهاية عقد الثمانينيات. ثلاثون سنة بدأت بشعار الأصالة والمعاصرة وانتهت بالحداثة لتنتهي إلى الطريق المسدود الذي اصطدم به عبد الله نور وعشرات من كتاب الحداثة؛ أي محاولة لعبوره تعني الموت. لا يوجد في الجهة الأخرى منه سوى مقبرة.
فاكس: 4702164 |