(1)
** حكي أن طاهرَ بن الحسين قال لأبي عبد الله المَرْوَزِي: منذ كمْ صرتَ إلى العراق يا أبا عبد الله؟
قال: دخلتُ العراق منذ عشرين سنة، وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فقال: يا أبا عبد الله سألتك عن مسألةٍ، فأجبتَ عن مسألتين! وحكى الأصمعيّ - رحمه الله - أن أعرابياً صلى فأطال، وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتَك، فقال: وأنا مع ذلك صائم، فقال أعرابي كان فيهم:
صلّى فأعجبني، وصام فرابني نحِّ القلُوصَ عن المصلِّي الصائمِ |
وقال عبد الله بن المبارك: أفضلُ الزهد إخفاءُ الزهد.
الماوردي - أدب الدنيا والدين - ص111 - طبعة دار الكتب العلمية - 1978م
(2)
** يفرّق الفلاسفة بين مفهومي الجَمالَ الحر، والجمال التابع؛ فحين نرى (الوردة) لا نبحثُ عن شروط
الجمال فيها، ونخضع أحكامنا للذائقة الذاتية، أما عندما نرى إنساناً: رجلاً أو امرأة أو طفلاً، أو بنياناً: قصراً أو معبداً أو جسراً، فإن الجمال مرتبطٌ بمواصفاتٍ نألفُها أو نعرفها، وربما خالفنا في حكمنا مَنْ كان معنا في ظروف المكان والزمان والخلفية الاجتماعية والمعرفية، والبحث عن الجمال هو - بمنطقٍ مشابه - بحثٌ عن الكمال، والشكل الخارجيّ ظاهر، والمخبر الداخلي مستتِر، والمعنيُّون بالارتقاء إلى درجة الجمال والكمال - في عيون وأفهام الآخرين - مهمومون بتحسيس المجرد، وتضخيم المحسوس كي يحققوا العُجْب وينالوا الإعجاب..!
** و(المروزيّ) و(الأعرابيّ) تجاوزا العبادة إلى الرّياء، فربما وقع في نفسيهما أن إضافة الإجابة أو الإجابة الضافية ستحقّق لهما ثناءً يتوارى عنهما إذا اكتفيا بما ظهر منهما، ودخلا - بسبب ذلك - دائرة الممنوع المتجاوز للمشروع..!
(3)
** غالباً لا يجيءُ الرياءُ بهذا الشكل المكشوف الذي يُمارسه بعض الناس رغبةً في إشاعةِ ذكرٍ أو استنطاقِ شكر؛ فقد بات مثل هذا الأسلوب منتهي الصلاحية، وبخاصةٍ عند الباحثين عن وهجٍ إعلامي عام مع بقاء الممارسة في الدائرة الفردية الخاصة..!
** تضاءلَ التصريح الساذج عن الذات المأزومة، وسقطت المبالغة في اللغة الموهومة، وباتَ رسمُ صورةٍ ذهنية عن الخِصال المرغوبة في مجتمع معيّن وتطبيقها على شخص أو مؤسسة أو نظام أو منظومة عاملاً يُجذِّر الرّياء ويزيد المرائين..!
** والأمثلة الفرديّة والجمعيّة عديدة، وأقربُها (الشعارات) التي ادعتْها فئامٌ وأحزاب ثم انتهتْ مثلما بدأت مجرد كلمات، وهكذا فالبيروقراطيون الذين يحملون قَسَم النزاهة والإخلاص في العلن هم من ينتهكونه في الخفاء، والمؤدلجون الذين يوهمون تابعيهم بالمبدأ هم الذين يفاوضون من أجل المصلحة، والقياسُ على هذه النماذج كبير وكثير..!
(4)
(مطوعٍ يا مال كشف المغطّا يطلب على رقي المنابر شروطي |
** لم ينشغل (مطوّع نفي) بالاحتكام إلى قيم الجمال والكمال التي أيقن أن صفته الاجتماعية قد أبلغته إياهما، فبات يبحث معهما عن سواهما مما لم يتوقعْ معه إدراك الناس لممارساتٍ تتناقض مع صورته الخارجيّة:
شِرِهْ على وِرعٍ وهو ما تغطّى ويلعب مع البزران بأم الخطوطي |
ومن كانت هذه اقتناعاته وأفعالَه فلا يُمكن أن يختبئ خلف المطالب الدنيّوية أو الورع المزعوم..!
** شخّصَ (الشاعر الكبير (عبد الله بن سبيِّل) معضلة مجتمعٍ يقودُه ثنائيوّ التنظير والممارسة الذين يضيئون نافذة القول، ويعتمون نوافذ الفعل، ويزدوجون أمام أنفسهم وإن التبس أمرهم أمام بعض الناس..!
** وقد روى أن موكب (خالد بن عبد الله القسْري) مرّ بعبد الله بن شبرمة فسمعه يقول:
أراها وإن كانت تُحبُّ كأنها سحابة صيف عن قريب تقشعُ |
اللهم لي ديني ولهم دنياهم، فاستُعمِل قاضياً على الكوفة، فقال له ابنه (أبو بكر): أتذكر قولك يوم كذا إذ مرّ بك صاحب الشرطة في موكب والي العراق؛ فقال: يا بني، إنهم يجدون مثل أبيك ولا يجد أبوك مثلهم؛ إن أباك أكل من حلوائهم فحُطّ - أو خبط - (أي سقط) في أهوائهم..!
** ويعلّق أبو الحسن علي بن محمد بن حببب البصري (الماوردي) - المتوفى سنة 450هـ - على الحكاية:
* (أما ترى هذا (الدَّيِّن الفاضل كيف عوجل بالتقريع، وقوبل بالتوبيخ من أخص ذويه، ولعله من أبرّ بنيه، فكيف بنا ونحن أطلقُ منه عِنانا، وأفلق جنانا إذا رمقتنا أعين المتتبعين، وتناولتنا ألسن المتعنتين؛ هل نجد غير توفيق الله تعالى ملاذا، وسوى عصمته معاذا؟).
** الوقائع تشي بواقعٍ مؤسف تتردى فيه النُّخب حين تتوهم قدرتَها على خداع (الجماهير) بادعاء حب الفضيلة، أو النَّوحِ على غيابها، أو السهّر على حراستها، وتتكشفُ الأحداث المغيبة عن الاكتفاء من ذلك بمقالة وقصيدة ووظيفة وشكلٍ خارجي..!
(5)
** تتصادم الازدواجية مع الحريّة فرغم أن ثمة مَنْ يودّ إدراج المواقف المتناقضة مع حق الإنسان في فعل ما يشاء، إلا أن الأديان والمذاهب والفلسفات المتعددة ترفضُ (الممثلين) الذين يلعبون أدواراً متناقضة، وقد كانت أمامهم حريتهم في الاختيار قبل أن يظهروا على المسرح ويرسموا لأنفسهم ملامح الطُّهر..!
** وفي كتابه عن (الحرية) أكد (جون ستيوارت مل 1806-1873م) أن المنطقة المحرمة التي لا يجوز المساس بها فيما يتصل بالحرية هي ثلاثية تتضمن: حرّية الضمير، وحرية الذوق، وحرية الانتماء، وما دامت هذه الحريات مكفولةً في معظم التشريعات فلا عذر لمن يبدو عليه الالتزام المرئي دون أن يصدِّق مخبرهُ مظهره أو تتوافق أفعالهُ مع أقواله..!
** لنا أن نختار أفكارنا لنطبقها، ولنا أن نتماشى مع أذواقِنا ليراها سوانا، ولنا أن ننضوي لجماعة في العلن وأمام الملأ، فهذه هي الحريّةُ التي ستقترب بنا من عالم الأصحاء، أما المرضى المسكونون بهاجس الجمال والكمال وفي دواخلهم سوءات وفجوات، فحقُّهم أن تكشف أوراقهُم كيلا يزايدوا على البشر وإن لم يستطيعوا الفرار من حساب رب البشر..!
(6)
** لم يُنظِّر عاقلٌ لباطلٍ أو رذيلة، ولا يدّعي (متوازنٌ) امتلاكه ميزان القيم، ويجيءُ (المزدوجون) ليمارسوا النفاقَ الاجتماعي فيُظهروا وجهاً ويُغيِّبوا وجوها، وقد استطاعت (الروايةُ السيريّة) أن تخلع طواقي الإخفاء التي دلّست زمناً؛ فجاءتْ حكاياتُ المسكوتِ عنه ليُواجه المجتمعُ نفسه، ويدرك عقلاؤه أن ليس في الأرض مدينة فاضلة، وربما عدّها بعضُنا روايات فضائح، وهي كذلك إلا أنها تقدّم لنا بضعَ نصائح كيلا نقعَ مرتهنين لخداع العناوين..!
* (التقوى ها هنا)..
|