أورد أبو الفرج النَّهرواني المتوفى سنة 390هـ نقلاً عن كتاب أخبار القضاة قصة طريفة من طرائف القاضي العادل (شريك) جاء فيها:
أتت امرأة يوماً إلى القاضي شريك، وكانت من ولد جرير بن عبد الله البَجَليّ صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت له وهو في مجلس حكمه: أنا بالله ثم بالقاضي، امرأةٌ من ولد جرير بن عبد الله رضي الله عنه، وكرَّرت كلامها، فقال لها شريك نعم، مَنْ ظلمك، قالت: عيسى بن موسى بن أخي الخليفة أبي العباس السفَّاح، كان لي بستان على شاطئ الفرات، لي فيه نخل، ورثته عن آبائي، وقاسمت إخوتي، وبنيت بيني وبينهم حائطاً، وجعلت فيه حارساً يحرس النخل ويقوم ببستاني، فاشترى الأمير عيسى من إخوتي جميعاً، وسامني فلم أبِعْه، فلما كان في هذه الليلة بعث خمسمائة فاعل فاقتلعوا الحائط فأصبحت لا أعرف من نخلي شيئاً، واختلط بنخل إخوتي الذي ابتاعه منهم، قال القاضي: يا غلام، أعطني ختماً، فختم خاتماً وقال لها: امضي به إلى بابه حتى يحضر معكِ، فجاءت المرأة بكتابه إلى دار (عيسى) فأخذه الحاجب ودخل الى سيِّده قائلاً:أُعدي القاضي شريكٌ عليك، قال عيسى لغلامه: ادع لي صاحب الشرطة، فدعا به فقال، امض إلى شريك فقل له: يا سبحان الله امرأة ادَّعتْ دعوى لم تصح، أعْدَيتَها عليَّ؟ فقال صاحب الشرطة: إنْ رأى الأمير أنْ يعفيني فليفعلْ فقال له: امض ويْلَك، فخرج وأمر خادمه أن يحمل معه فراشاً، وانطلق إلى شريك فأدَّى رسالة الأمير عيسى، فقال القاضي لصاحبه: خُذْ بيده فضعه في الحبس، قال صاحب الشرطة: قد علمتُ - والله - يا أبا عبد الله أنك تفعل ذلك..
قال: فلما بلغ عيسى بن موسى ذلك أرسل حاجبه إلى القاضي، فألحقه القاضي بصاحبه فحُبِس، فلمَّا صلى الأمير العصر بعث إلى إسحاق بن صباح الأشعثيّ وإلى عدد من وجوه الكوفة من أصدقاء شريك، فقال لهم: امضوا إلى صاحبكم فقد تجاوز حدَّه واستخفَّ بي، وأنا لست كالعامَّة، فمضوا إلى شريك وهو في مسجده بعد العصر، فدخلوا عليه وأبلغوه الرسالة، فقال لهم: ما لي لا أراكم جئتم في شأن غيره من ضعفاء الناس؟ ثم أمر بعض رجاله بأن يأخذوا بأيديهم إلى الحبس، فقالوا: أجادٌّ أنت؟ قال: لا يتمُّ والله إلا فيه حتى لا تحملوا بعدها رسالة ظالم، فحبسهم،فلما بلغ الخبر عيسى بن موسى ركب مع بعض رجاله في الليل وذهب إلى الحبس فأخرجهم جميعاً منه، فلما كان من الغد، أخبر السجَّان شريكاً بما حصل، فدعا شريك بأوراقه فختمها ووجَّه بها إلى منزله، وقال لغلامه: الحقْني بمتاع السفر إلى بغداد، والله ما طلبنا هذا القضاء منهم ولكنْ أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه.
ومضى نحو قنْطرة الكوفة يريد بغداد، وبلغ عيسى بن موسى الخبر، فركب في موكبه فلحقه وجعل يناشده الله ويقول: يا أبا عبد الله، تمهَّل فإن الذين حبستهم إخوانك، قال شريك: نعم لأنهم مشوا لك في أمر لا يجوز لهم المشي فيه، ولست براجع حتى يُردُّوا جميعاً إلى الحبس أو أمضي إلى أمير المؤمنين من فوري فأستعفيه فيما قلَّدني.
فأمر بردِّهم جميعاً إلى الحبس، فلما تم ذلك قال لأعوانه: خذوا بلجام حصان الأمير إلى مجلس الحكم، فلما دخل مجلسه قال: أين المرأة الجريريَّة المتظلمة من هذا؟ فجاءت فقال لها: هذا خصمك قد حضر، ثم أمر قبل أنْ يسمع منها بإخراج أولئك النفْر من الحبس لأن عيسى قد حضر المجلس.
تحدَّثت المرأة بدعواها، فأقرَّ بها الأمير عيسى وحكم القاضي ببناء حائطها وإعادة بيت حارسها ومتاعه، وقال لها: هل تريدين شيئاً غير هذا، قالت: لا، وجزاك الله خيراً، فخرجت من المجلس، وهنا وثب القاضي شريك من مجلسه وأخذ بيد الأمير عيسى بن موسى، وأجلسه في مجلسه، ثم قال: السلام عليك أيها الأمير، أتأمرني بشيء، قال عيسى وهو يضحك: بأيِّ شيء آمرك يا أبا عبد الله؟ وكانت نفس الأمير قد استراحت لهذا العدل برغم شدَّة الأمر عليه في اوَّله.
موقف مشرق بمثله تستأنس القلوب وتسعد، وعلى مثله تقوم ركائز الحياة الحرَّة الكريمة، ودعائم المجتمع القويّ المتماسك.
***
إشارة:
فمهما كان من خيرٍ فإنا ورثناه أوائل أوَّلينا |
www.awfaz.com |