Thursday 30th March,200612236العددالخميس 1 ,ربيع الاول 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"سماء النجوم"

غداً .. يأتي الله لنا بخير غداً .. يأتي الله لنا بخير
هدى المعجل

ولأنّ الأيام حبلى بالمواجع آثرت الانزواء والعزلة .. على أن أزدرد مواجعها وأتجرّعها بألم مضن.
إلى متى وأنت منطوية على نفسك .. أمّا آن لهذا الصمت أن يتحرر من براثن عزلتك .. ويطلق لمداه العنان؟
قالت أمي .. ثم استدارت باتجاه المطبخ لتجهز العشاء ريثما يعود والدي من عمله .. لم يكتف والدي بعمله النهاري!! بل اجتهد في سبيل حصوله على وظيفة أخرى براتب معقول..!
كان يقول لنا:
لا يكاد راتبي المتواضع يلبي احتياجاتي الأسرية .. أو حتى يجاري متطلَّبات المعيشة .. ولست أرضى لكم بعيش الكفاف .. بل أريدكم بمستوى يليق باسم العائلة .. ويحفظ ماء وجوهكم!
هكذا كان والدي يبرر لأمي ولنا سبب سعيه الحثيث نحو زيادة دخله وغيابه المتكرر عن المنزل مما يضطره للمبيت خارجه في أغلب الأحيان.
تحظى عائلتنا منذ القِدَم بعراقة تاريخية وتجارية أصيلة وعميقة الجذور لوت إليها أعناق كل من عاصروا هذه العائلة .. ورغم أنّ والدي فرد من محيط تلك العائلة التي انحدرت من أقاليم نجد باتجاه الحجاز طلباً للعيش الرغيد وسعة الرزق، إلاّ أنّه آثر البقاء في نجد مسلماً بالعيش الكفاف .. فكيف له أن يدع أرض أجداده ومزارعهم ومآثرهم ونخيلهم لمجرّد أن المعيشة بها ضنكة.
كثيراً ما كان والدي يروي لنا الجوع الذي عانوا منه مما اضطرهم إلى ربط بطونهم وإسكات جوع صغارهم وتضميد جراحهم بقدر بماء يلهيهم إلى أن يخلدوا في نوم عميق وهم بانتظار طعام .. ربما لن يأتي.
اقترن أبي بوالدتي مقابل حفنة من الريالات مهراً لها فانتقلت من بيت أب ثري موسر إلى عش زوج فقير فقرة مدقع لكنها رضيت به وقنعت بشظف العيش معه غير آسفة على تركها لدار والدها العامر.
عشت جزءاً من أيام فقرهم وشظف عيشهم طالما أني ابنتهم البكر.
كانت أمي في حضرة أبي ونحن على سفرة الطعام تبطئ في مضغ الطعام وأحياناً تتظاهر بالشبع وما أن يسحب أبي يده حامداً الله على نعمته ويغادر حتى تلتقط بقايا الأكل المتناثر منه وتلقمنا إياه .. أمّا هي فتكتفي بلعق أصابعها.
عندما دخلت المدرسة أذكر أنّ المعلمة لقّنتنا يوماً ما فضل الأم وضرورة برِّها والإحسان إليها .. وروت لنا قصة الأم الفقيرة وابنتيها عندما طرقت منزل السيدة عائشة - رضي الله عنها - زوج الرسول صلى الله عليه وسلم تطلب طعاماً تسد به جوع ابنتيها وجوعها وتسكت بكاءهما، فلم تجد السيدة عائشة - رضي الله عنها - سوى ثلاث تمرات دفعت بها إلى الأم .. أكلت البنتان تمرتيهما بسرعة وما أن همت الأم بنصيبها لتأكلها حتى انتبهت إلى ابنتيها وعيناهما باتجاه التمرة فقسمتها نصفين بينهما وظلت جائعة!!
كنت الوحيدة بين أخواتي البنات أرقب أمي عن بعد .. وأستشعر صبرها وأتلمّس معاناتها وأستشف وجعها من ملامح وجهها وتهالك حالها، بيْد أنها لم تحاول في يوم إظهار تذمُّرها من سوء حال أبي في غيابه أو حين تواجده بيننا.
بعد تخرُّجي من المرحلة الابتدائية بسنتين توفي جدي لأمي فورثت عنه أمي مبلغاً لا بأس به .. دفعته إلى أبي لكي يستثمره ويتاجر به .. وافق على مضض مدعياً أنّ الرجل لا حق له في مال زوجته .. مارس والدي ركضه في مضمار رجال الأعمال .. كلما دخل المنزل أبدى تذمُّره من حال السوق .. وتردِّي حركة البيع والشراء.
- هوِّن عليك يا أبا سمية.. غداً يأتي الله لنا بخير.
هكذا كانت والدتي تواسيه .. وسمية هي أنا فلم يرزق أبي سوى أربع بنات.
في يوم دخل علينا والدي شبه منهار!! يداه ترتجفان والعرق يتصبب منه!!
حاولت أمي استكناه حاله .. وما قد ألمّ به، بيْد أنّها لم تستطع لتردِّي وضعه!!
فتركته ريثما تهدأ نفسه وتستقر حاله.
- خسرت تجارتي يا أمّ سمية .. كل قرش وضعته تلاشى في غمضة عين.
- بشيء من الفزع قالت والدتي: كيف يا أبا سمية؟
- الباخرة المحملة بصفقة الأرزاق التجارية غرقت عن بكرة أبيها.
- وقد علا صوتها قليلاً: قل شيئاً غير هذا يا رجل!!
- هو ما حصل يا أم سمية!!
- حسبنا الله ونعم الوكيل .. لا حول ولا قوة إلاّ بالله .. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وبعد فترة صمت طويلة قالت أمي: عوّضنا على الله يا أبا سمية غداً يأتي الله لنا بخير.
رغم ظروفنا العصيبة وتراجع حالتنا المادية وانكسار أبي في السوق إلاّ أنني استطعت التغلُّب على الظروف فكافحت دراسياً وثابرت وسهرت واجتهدت حتى نلت شهادة الدكتوراه في طب الأطفال.
كان والدي خلالها يحاول ترميم وضعه المادي واسترداد اسمه في السوق أو إعادة صقله من جديد .. بينما شغلت نفسي بعملي.
اليوم أول أيامي في الوظيفة .. بدأته بجد ونشاط .. استطعت أن أبدِّد متاعبي الأسرية وأنا أمارس وظيفتي .. وأعالج عصافير الجنة متنقلة فيما بينهم ..
حين دخولي عيادتي أو خروجي منها ابتهج برؤية اسمي معلقاً يمين الباب: (عيادة الدكتورة سمية أنور العدنان).
- دكتورة .. بالخارج أم تحمل طفلة مصابة بالتشنج..!
- دعيها تدخل.
- بصوت يملؤه الخوف والفزع .. مساء الخير دكتورة.
- مساء النور .. تفضلي .. ضعيها هنا على السرير.
- هاه .. ماذا بعد .. ما الذي أصابها؟
- كانت تلعب مع أخيها الصغير في غفلة مني وبينما هما يتراكضان سقطت على رأسها فأغشي عليها وأغمي إلى أن أصبحت كما ترين.
اتخذت الإجراء اللازم والفحوصات الضرورية عند وقوع مثل هذه الحالات.
- اطمئني كل شيء على ما يرام .. حالتها جيدة ولا خوف عليها .. وستسترد وعيها بمجرد أخذها للإبرة .. فقط تحتاج لعناية مركّزة لساعات بمرافقتك طبعاً .. فهل لي باسمها حتى أحرر لها ورقة دخول؟
- هاجر أنور العدنان!
- بصوت مرتفع: نعم؟ ماذا قلت؟
- هاجر أنور العدنان.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved