قبل عدة سنوات رأيت في مطار القاهرة مشهداً مضحكاً ومؤسفاً.. جمهرة من الناس وعلى وجوههم علامات الحزن والأسى، وقد أجهشت النساء بالبكاء وأدمعت أعين الرجال، وظننت أن هذا الجمع يستقبل جثمان عزيز قضى في ديار الغربة، لكن كم كانت دهشتي عظيمة عندما عرفت أن هؤلاء الناس يودعون بالبكاء والعويل عروسين ذاهبين إلى الخارج لقضاء شهر العسل..
وما يجري من مراسم في حفلات الوداع يجري مثلها في حفلات الاستقبال.. لكن الحرارة تتفاوت بنسبة الشخصيات والمقامات وأهميتها..
وخلال نفس الفترة اتصل عليَّ صديق يقول: ألست آتياً إلى المطار بعد ظهر اليوم؟
قلت: خير إن شاء الله؟ قال إن الوجيه المعروف فلان عائد اليوم من الخارج.. ويجب أن نقيم له استقبالاً يفوق الاستقبال الذي جرى في الصيف الماضي.. قلت: وهل صاحبنا عائد من هيوستن بعد أن هبط على سطح القمر وزرع فوقه علم البلاد؟ أم أنه كان يروّح عن النفس في مرابع أوروبا؟
فأقفل محدثي الخط قبل أن أقفله في وجهه الكريم..
وهكذا جرت العادة عندنا كلما سافر شخص ودعناه بالدموع وكلما عاد استقبلناه بالتهليل والزغاريد.. وأحياناً بإطلاق الرصاص ويتبارى المستقبلون والمودعون في إظهار عواطف الود فتجري المزايدات على ذرف الدموع في حالة الوداع وإطلاق الرصاص والنار والتغاريد في ساعة الاستقبال.. هذا ما يحدث عادة في السفر القصير.. أو السفر مع العودة.. أما في مرحلة الرحلة الطويلة التي لا رجوع منها والتي لا بد أن يقوم بها كل إنسان بعد عمر طويل فأمرها أعجب.. وما يحدث فيها أشد غرابة.
شهدت مأتماً لا يمكن للمرء أن يمر به لما للموت من حرمة وإجلال دون تعليق..
حضر المأتم بضعة ألوف جاء بعضهم لأنه تلقى دعوة نعيه بلغة الموت والبعض الآخر بداعي الفضول.. وكثير من المعزين كانوا يجهلون الميت.. حتى إن رجلاً كان بالقرب مني ويتصنَّع الحزن واللوعة سألني بصوت منخفض: ومن هو الفقيد؟..
أجبته: الفقيد هو ذاك الذي تراه مسجى في النعش فخجل من سؤاله البائخ ومضى في سبيله.
وجاء دور المراثي البليغة والقصائد العصماء، خطب جلل، مصاب فادح، داهية دهياء زلزال دك الجبل، إلى ما هنالك من تعابير لا تصح ولو كان المرحوم هارون الرشيد نفسه.
أضف إلى ما كان يدور همساً بين بعض المشيعين والمشيعات من تساؤل.. ترى كم خلف الفقيد من إرث؟ إن زوجته ما زالت تتمتع بمسحة من جمال وكثير من مال، وتستطيع بالتالي أن تتزوج رغم تقدمها في السن.
وتطوعت سيدة من المعزيات بتسمية العريس المناسب، فوافقت جميع الحاضرات دون أي فيتو.. إلى ذلك من تعليقات ليس من اللياقة والإنسانية أن تُقال والميت لم يوار التراب بعد.
ولقد أصبحت المآتم في أيامنا كالأعراس، فرصة ومناسبة لإظهار الوجاهة وبمقدار ما يكون مركز عائلة الفقيد وليس مركز الفقيد نفسه، يكون مأتمه كبيراً أو صغيراً.
وقد روى لي أحد الأصدقاء ممن يقيمون بيننا قائلاً: منذ سنوات برز رجل عصامي تدرَّج من محامٍ إلى أعلى الدرجات وكان هذا الرجل ينحدر من عائلة متواضعة لكن ما ان أخذ نجمه يلمع في الأفق حتى بدأنا نسمع بأقرباء جدد يدَّعون قرابته، وعندما أصبح نجماً صار سكان قريته بكاملهم يقولون إنهم أبناء عمه عندما تسلم مركزاً مرموقاً فقد أصبح ثلاثة أرباع منطقة من أفراد عائلته.
وشاءت الأقدار أن يموت هذا الرجل فكان يوم وفاته يوماً مشهوداً حضره عشرات الألوف من المتفرجين.. على مأتمه الحافل لكن عندما أُقيمت له الأربعون لم يتجاوز عدد الحضور المائة شخص.. ذلك أن عدد الذين كانوا يدّعون قرابة الفقيد يوم كان كبيراً تقلص واختفى بعد وفاته.
وما دمت في صدد الحديث عن الوداع والاستقبال، فلا بأس من ذكر حفلة تملق شائقة حضرتها منذ أسابيع أقامها موظفو إحدى المصالح الحكومية على شرف رئيسهم الجديد.
وقد سمعت في تلك الحفلة من الخطب الرنانة والتّغني بعبقرية هذا الرئيس والإطناب في وصف ذكائه ونبوغه ما جعلني أشعر بالاشمئزاز واعجل بالانصراف.
لقد اعتمد البعض منا المبالغة في إظهار عواطفهم.. إن مدحوا شخصاً رفعوه إلى أعلى قمم المجد.. وإن كرهوه أنزلوه إلى أعماق الأرض وكل هذا يصاغ في قالب من الإطراء أو الهجاء لا يستند إلى الواقع في كثير من الأحيان.
إنه لمن الغريب أن تنحدر العواطف عند بعض الناس وهو أسمى ما في الإنسان إلى هذا الدرك السحيق لتصبح سلعاً تُباع وتُشترى مثلها مثل القناني الفارغة والثياب العتيقة.
|