منذ انطلاقة الحملة الشعبية لمقاطعة المنتجات الدنماركية بسبب نشر الرسوم المسيئة لأشرف الخلق وأفضل الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وإعلان العديد من المتاجر الكبيرة للمقاطعة، وهناك هاجس يؤرقني من استغلال بعض التجار للمقاطعة لأغراض إعلانية تجارية بحتة.. لكن هذا الهاجس أصبح حقيقة ففي جريدة الرياض في العدد 13740 ليوم الأحد السادس من محرم لعام 1427هـ ورد خبر عن استقالة ثلاثة سعوديين من سوق مركزي لعدم مقاطعته المنتجات الدنماركية، علماً بأن هذا السوق مقاطع للبضائع الدنماركية إعلامياً فقط، فالمركز من الأسواق الكبيرة وله فروع كثيرة في الرياض وبعض مناطق المملكة استغل المقاطعة كإعلان تجاري لجذب المستهلكين وتسويق بضاعته.
فالمصيبة تعظم بوجود مثل هؤلاء التجار الذين يستغلون حب الناس لخاتم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويستغلون العاطفة العظيمة في قلب كل مسلم لتحقيق مكاسب مادية زائلة.. إنه استغلال بشع ومهين في حق المسلمين الذين يثقون في صدق إعلانات هؤلاء التجار، لكن أين الرقابة من محاسبة هؤلاء الذين يدعون المقاطعة للترويج والإعلان ويغشون الناس؟؟! فجريمتهم أفظع وأشنع من المراكز التي لم تقاطع لأنه غش واضح وتلاعب بعواطف المسلمين لأعظم عاطفة وهي حب رسولنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا).
ورغم ألمنا بوجود مثل هذه النماذج بيننا، لن يمنعنا ذلك من الفخر والإشادة بموقف الشباب الذين لم تثنهم لقمة العيش عن ترك مورد رزقهم بعد فشلهم في إقناع المسؤولين بالتفاعل الحقيقي مع المقاطعة.. إنه موقف شجاع في التعبير عن حبهم لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ورفض كل أشكال الغش والتدليس على الناس.. إنها شجاعة في زمن طغت فيه الماديات على نفوس بعض البشر فلم يعد يهمها أي طريق ستسلك في سبيل تحقيق مكاسب سريعة.. رب ضارة نافعة هذا ما أكدته الأزمة التي يمر بها المسلمون اليوم، فهذه الأزمة رغم صعوبتها على النفس بينت التلاحم الكبير بين المسلمين في كل بقاع العالم في الدفاع عن سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واكتشفنا من خلالها أن بعض الصناعات التي كنا نستخدمها ونفخر بأنها صناعة وطنية هي في حقيقة الأمر صناعة أجنبية، فالتوكيلات التي أخذها بعض أبناء الوطن من الشركات الأجنبية أتاحت لهم الفرصة في خداع المستهلك عن طريق كتابة صناعة سعودية على المنتج، ولا أدري لماذا يكتب عليها صناعة سعودية بينما تصنع في الخارج أم أن العبوة هي ما تم صنعه في السعودية؟؟!
فمنذ سنين مضت ونحن نعتقد بأن هذه المنتجات صناعة سعودية إلى أن اكتشفنا مؤخراً أنها صناعة أجنبية، فأين حماية المستهلك من هذا الخداع الذي يستهدف المستهلك بالدرجة الأولى؟!
حتى وأن وجدت صناعة سعودية فهي في أغلبها صناعة خفيفة في إنتاح الحلويات والعصائر التي تمتلئ بها أرفف مراكزنا التجارية، صناعة أضرارها طغت على فوائدها، عصائر يكتب عليها بخط كبير تحتوي على فيتامين (C) أي فيتامين يستطيع العيش في المواد الحافظة والماء والسكر لعدة شهور، كل هذه المنتجات ساعدت في تشكيل ثقافة أطفالنا الغذائية الذين لا يعلمون عن الفاكهة سوى تلك العلبة من العصير التي ازدانت بالرسوم الملونة لجذب انتباههم، وساعدت هي والحلويات على تدمير أسنانهم وعلى انتعاش سوق عيادات الأسنان، وارتفاع معدل السمنة والنشاط الزائد بين الأطفال، فالكل يشتكي من الحركة الزائدة لدى معظم الأطفال والسبب يعود بكل بساطة للعصائر والمشروبات الغازية والحلويات.
لا بد أن نخرج من هذه الأزمة التي نمر بها بتفعيل قرارات تساعد على تجاوز الاعتماد على البلاد الأجنبية في كل أمور حياتنا المعيشية، لا بد من التخطيط لإنشاء مشاريع صناعية ناجحة.
فالبلد يزخر بالثروة البشرية المعطلة التي تضخ بها الجامعات والمدارس كل عام حالمين بوظيفة تنشلهم من التسكع والضياع وتفتح لهم أبواب المستقبل والاستقرار في الحياة، فلماذا لا يقوم التجار بالمبادرة فعلياً بعد هذه المقاطعة بتبني المشاريع الصناعية المثمرة والدائمة لخير المجتمع بدلا من استثمار أموالهم في مشاريع تحقق الربح السريع بغض النظر عن حاجة المجتمع الفعلية لهذه المشاريع.
إن هذه الأزمة كشفت العديد من الأمور التي لا ينبغي التقاعس عن علاجها، لنفكر في المستقبل الذي هو ملك لأبنائنا ونوفر لهم كل ما من شأنه أن يساعدهم على العيش بأمان واكتفاء بعيدا عن الاعتماد على الغير في شؤون حياته.
قد تكون هذه المقاطعة مجدية بشكل كبير في الوقت الحاضر، لكن هل ستكون كذلك لو حدثت أزمة أخرى في المستقبل في ظل الاعتماد الكبير على الدول الأجنبية في مختلف الصناعات؟! لا أعتقد ذلك لأننا لن نجعل هذا الحل ملازماً لنا في كل أزمة تواجهنا مع العالم لاختلاف الزمان واختلاف كل مشكلة ومسبباتها عن غيرها من المشكلات واختلاف طريقة معالجتها تبعاً لذلك.
فلابد من المبادرة باتخاذ خطوات علمية وهادفة لتحقيق الاكتفاء المحلي أولاً في توفير متطلبات الحياة اليومية، وأن نبذل ما في وسعنا لإنجاح المشاريع الصناعية تجارياً وإعلامياً التي ستكون رافداً مهماً في التقدم والازدهار لوطن ننشد له الأمن والاستقرار.
(*) الدبلوم العالي للصحافة |