قبل الدخول في الموضوع، أبارك للشعب السعودي الكريم هذه القيادة الحكيمة، وقراراتها القيادية بشأن سوق الأسهم، كما أبارك للقيادة ملايين الدعوات الحارة التي انطلقت بعفوية عندما شعرت بالدور الأبوي لقيادتها التي ساءها ولا شك معاناتهم طوال الشهر الماضي.
كم نحن بحاجة إلى مثل هذه القرارات القوية والحاسمة، في قضايا أخرى منها ما نحن بصدده الآن.
غير أن الفرحة الكبرى لن تتم إلا بإعادة القروض المسيلة من قبل البنوك إلى أصحابها كما أشرت في مقال سابق، متحملة بذلك مسؤوليتها في التنمية، ومتحملة تسرعها، وكأننا كنا على حافة كارثة - لا قدر الله - أربعة ملايين محفظة في سوق الأسهم، رقم قد يوحي بأكثر من دلالة.
وقد سمعت - كما سمع غيري - ما يتردد في بعض القنوات الفضائية من أن العلماء الشرعيين لهم دور في الأمر وأنهم هم الذين شجعوا الناس على الاستثمار في السوق.
وهنا لابد من وضع النقاط على الحروف على الأقل من وجهة نظر محايدة.
بادئ ذي بدء يتوجب عليّ أن أعترف، أو قل أشهد شهادة حق، بأن الشيخ عبدالله بن منيع - حفظه الله - هو الذي أطلق الاقتصاد السعودي في بعده الشعبي، وذلك عندما انطلق بفتاويه وبحوثه الرائدة في مجالات التورق والتقسيط، وتشكيل الهيئات الشرعية في البنوك، فكانت تلك الآراء الجريئة تأتي في وقتها وتلامس حاجات الشعب المتعطش للسيولة.
ولا شك أن لهذا دورا لا ينكر، ليس فقط في مجال الأسهم، ولكن أيضا في مجال تملك العقار والسيارات وأنواع أخرى من التجارة؛ ولذلك فأرجو أن يجوز لي إطلاق لقب (شيخ الاقتصاد السعودي) على الشيخ ابن منيع.
غير أن القوة الدافعة الحقيقية باتجاه أسواق الأوراق المالية قد جاءت من جهة وزارة العمل، ويشاركها في ذلك مؤسسات حكومية أخرى ذات علاقة. ففي برامجها الكثيرة التي تسعى من ورائها لتوفير وظائف للسعوديين، نرى أن وزارة العمل هي في الحقيقة تقف حجر عثرة في سبيل كل المشاريع التي تهدف إلى توطين التقنية وتوفير الوظائف للمواطنين.
ففي حين يحتاج كل مشروع صغير مبتدئ إلى توفير مناخ دعم وتشجيع، وتوفير حضانة للرعاية والتأهيل، وإزالة كل الحواجز والعقبات، فإن وزارة العمل لا تفرق - بكل أسف - في لوائحها وأنظمتها بين شركة عملاقة ضاربة محليا ودوليا وبين مشروع متواضع صغير يريد أن يشق طريقه تحت وطأة التحدي الشديد والمنافسة الشرسة. ولا ننسى قلة الخبرة والخوف من المجهول.
في سنغافورة ظهرت ما تسمى بمحاضن التقنية، وهي في الحقيقة أماكن توفر المال (مجانا) أوبقروض ميسرة، وبدون الحاجة لأي شيء سوى تعبئة نموذج من خلال الإنترنت، وتوفر الجو المشجع، وتوفر المكاتب (شبه المجانية)، إضافة إلى توفير الدراسات والاستشارات، كل ذلك من أجل دفع كل صاحب فكرة أومشروع مهما كان صغيرا أن ينطلق دون خوف من العواقب أوالفشل. وهذه المحاضن لها وجود في دول كثيرة أخرى أيضا.
وفي المقابل فإن وزارة العمل، تضع من العراقيل والعقبات التي تقف في وجه المستثمرين - خاصة الشباب وصغار المستثمرين - ما يجعلهم يعرضون عن هذا النوع من التجارة والصناعة. وأنا هنا لا أقف ضد مشاريع الوزاره، غير أني أنظر لتلك الأهداف من بعيد وأريد تحقيقها بالتشجيع والإغراء، لا بالقوة والتنفير.
فجاء سوق الأسهم، لا فيز، لا استقدام، لا رخصة بلدية، لا سجل تجاري، لا هم، لا رسوم، لا سعودة، لا زيارات ميدانية تأتي حسب مزاج وذوق المهندسين، لا مكاتب تعقيب، لا مكتب عمل، لا جوازات، لا تأمينات، لا غرفة تجارية،... فهذه اللاءات هي بالحقيقة من دفع الناس للتخلص من هذه العقبات التي جعلت من الأعمال الصغيرة، خاصة للمبتدئين، كابوسا مخيفا، ووحشا كاسرا، يهم بالانقضاض عليهم كلما حاولوا التغلب على ذواتهم والتحرك لكسب العيش. لقد وجدوا ضالتهم في سوق الأسهم، وأشبعوا رغابتهم البشرية الفطرية في حب جمع المال وتكوين الثروة.
وحتى تلك الصناديق التي توفر قروضا ميسرة للشباب، هي في الحقيقة تضع من الضوابط ما يحبط الكثيرين حتى عن مجرد التفكير فيها.
إن ما أتمناه هو، باختصار شديد، أن نفرق بين الشركات الكبرى ذات التاريخ، والثقل، وبين المؤسسات المبتدئة، فعلى الأولى أن تشارك في المشاريع الوطنية الهادفة لتوفير الوظائف وغيرها، في حين أن الثانية تحتاج - ليس فقط من وزارة العمل - بل ومن غيرها إلى وقفة تشجيع تتمثل في الإعفاءات الكاملة من جميع الرسوم، وإلغاء كل شروط التوظيف، وتوفير العمالة المطلوبة بدون أية شروط، والموافقة على ذلك فورا وبدون تأخير، ومنح الرخص اللازمة والسجلات بدون أية طلبات، وإعطاء التسهيلات المالية، والقروض دون الحاجة إلى وضع ضوابط معوقة، فنحن نتحدث عن مبالغ ضئيلة كل منها لا يتعدى المليون ريال.
لا أستبعد وجود مخالفات، غير أن المحصلة النهائية سوف تثمر أعمالا إبداعية، وتوفر كما هائلا من الوظائف عن طريق شركات وليدة، لن تنسى أبدا الدور الحاضن والمشجع للوطن والقائمين عليه.
ويجب أن لا توضع أية مواصفات حول طبيعة المشاريع، بل تغطي كل جوانب التقنية، والمعلوماتية، والفنية، والإعلامية، والتجارة، والصناعة. كما يجب أن تستمر هذه التسهيلات والإعفاءات لفترة لا تقل عن خمس سنوات لكل مشروع، يتم خلالها تقديم تقارير عن تطورات وسير الأعمال.
إن هذه المشاريع تمثل قمة المغامرة وقمة المجازفة، وهذا مطلوب، فلماذا لا تسعى الدولة متمثلة بوزاراتها ذات العلاقة، بتجربة هذه المغامرة هي من طرفها؟ أقصد لماذا لا تغامر وتجرب الأفكار التي تم طرحها؟؟ ماذا عساها أن تخسر سوى بضعة ملايين من الريالات لا تساوي شيئا في سبيل انطلاقة تقنية وصناعية أكيدة بإذن الله؟ كم أتمنى أن أسمع بهذه الانطلاقة والتحرر من قيود الشك، والخوف، والتردد، والروتين، من أجل دفع العقول الوطنية إلى الإبداع بأقصر طريق، فنحن نعيش عولمة خطيرة قد تكتسح كل مكاسبنا السابقة. ولكن يجب أن لا ننسى أن المنافسة تأتي بسبب الفرص المتاحة، فهل نوفر الفرص لعلها أن ترقى بمستوى قدرتنا الوطنية على التحدي؟؟ ومن جهة ثانية تسحب البساط من تحت سوق الأسهم عالي المخاطر؟
nalzayed@ksu. edu. sa |