الأدب هو بمثابة معيار من عدة معايير لقياس تقدُّم الشعوب ورقي الدول، فكلما كانت آداب الشعوب راقية، وقادرة على التّفاعل مع واقع مجتمعاتها، والتّعبير عنه بحميمية وصدق، كلما كان ذلك معياراً على تقدُّم هذه الشعوب، أو تلك الدول، فقد كان الأدب في عز دولة بني العباس التي كانت تمثِّل بحق أوج ازدهار الدولة الإسلامية في التاريخ، يُعبر بصدق عن رقي الإنسان في هذه الدولة.. فقد كان أبو تمام - مثلاً - وكذلك أبو نواس، وابن المقفع، يطرحون أدباً كان آنذاك قمة الأدب العالمي، وكان في واقعه يُعبر تعبيراً دقيقاً عن واقع تقدُّم ورقي الدولة التي يعيشون فيها، ومنه يستطيع الباحث أن يستشف مدى التّحضُّر على المستوى الإنساني الذي كانت تنعم فيه تلك الدولة، ويطغى على عطاء وأدب مثقفيها.
تقدَمَ العالم، وتعدَدَت أنواع التعبير الأدبي، بينما جَمَدَ العرب وكذلك المسلمون في أدب الشعر.. فن القصة - مثلاً - لم يعرفه المسلمون إلا على نطاق ضيق ومحدود ككتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع الذي نقله عن (البهلوية) إلى العربية، والذي أراد منه - على ما يبدو - نقد بعض الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مجتمعه من خلال القصة.. كما أن مقامات الهمذاني وكذلك الحريري كانت تحمل في بنائها الفني من حيث الفكرة (نواة) لمشروع (أدب قصصي) لم يكتمل.. ولأن الثقافة الشعبية شفهية وليست مكتوبة، فقد كانت (السالفة) أو (الحجاة) أو (السبحونة) هي نوع من أنواع القصة لدينا في المملكة، لكنها كانت غير مدوّنة لعدم انتشار الكتابة آنذاك، رغم أنها تحتوي فنياً على كل مقومات النص القصصي.. وفي بلاد الشام ومصر كان (الحكواتي) الشعبي يقوم بدور الراوي وهو يسرد قصص عنترة وأبو زيد الهلالي مثلاً، ولكي يظهروا قدرتهم على التأثير كانوا يتفننون في جذب المتلقي من خلال البراعة في الإلقاء التي تصل أحياناً إلى التمثيل، تماماً كما يفعل بعض الشعراء الشعبيين لدينا.. غير أن هذه اللمحات لم يواكبها في هذا المضمار (التدوين) كي تتكرَّس كنوع آخر من أنواع الأدب، لذلك ظل أدب الشعوب الإسلامية، والناطقة منها بالعربية على وجه الخصوص، متقوقعاً في (الشعر) لا يبرحه قيد أنملة.
وعندما بدأ المسلمون في الاحتكاك بآداب الشعوب خارج بيئتهم الثقافية التقليدية، نقلوا عن الحضارات الأخرى (كتابة) القصة كما هي عليه الآن.. وتستطيع أن ترصد مدى الارتباك أمام هذا الأدب الجديد الوافد إلينا من خارج منظومتنا الثقافية من موقف بعض (الوعاظ) السعوديين من هذا الفن الجديد، فهم لا يُفرِّقون بين (شخوص) العمل القصصي أو الروائي، وبين كاتب النص.. فما يقوله أبطال القصة - مثلاً - هو في مقاييسهم قول و(فكر) يتحمَّل مسؤوليته القاص أو الراوي، لذلك تراهم يُحاكمون الكاتب على أقوال وتصرفات وحوارات جميع أبطال قصته، وكأن أبطال القصة هم صاحب النص نفسه، بينما أن القاص يطرح في عمله أدباً تجسِّده أقوال وممارسات وحوارات أشخاص الرواية وتناقضاتهم الفكرية والسلوكية والنفسية، ولا يعني ذلك أن الكاتب يتبنى هذه الشخصية أو تلك من أبطال روايته، بقدر ما يطرح أدباً من وجهة نظر فنية بحتة.
كما أن الخيال، أو سمه إن شئت (الكذب)، الذي يرفضه بعضُ الوعاظ لدينا في أدب القصة، إذا تنزه عنه الأدب، يتحوَّل إلى مادة جامدة، قد تكون (حكياً) أو (سرداً)، لكنها تظل أقل من أن ترتفع إلى مستوى الإبداع الذي هو أحد أهم مقاييس (التّفوق) في الآداب.. وقديماً قالوا: (أعذب الشعر أكذبه).. ولعل هذا ما عناه الأديب الذي يصنَّف على أنه أحد عظماء الأدب الإسلامي (محمد إقبال) عندما قال: (لا خير في نثر وشعر إذا تجرَّد من تأثير عصا موسى).. وأدب القصة بهذه الأبعاد، ومن هذه المنطلقات، لا يمكن أن يكون مرفوضاً إلا في مجتمعات لا يريد إنسانها أن يقرأ أدباً، وإنما وعظاً.
ولعل الضجة التي أُثيرت - مثلاً - حول قصة (بنات الرياض) للقاصَّة الشابَّة رجاء الصانع، سببها في تقديري يعود إلى هذا (التّشوه) في فهمنا لدور الأدب. فجميع من اعترضوا على هذا العمل، كانوا يرفضون في الواقع ما تضمَّنه من أفكار ورؤى وممارسات وحوارات، أو أقوال جاءت على لسان بعض شخوص الرواية، وهم بذلك لا يفرِّقون بين (العمل الفكري) المباشر و(العمل القصصي) الذي يعتمدُ على الخيال والخَلق والإبداع كما هو شرط (الإسلامي) محمد إقبال. وهذه نظرة قاصرة بكل المقاييس في فهم الأدب، فضلاً عن أنها تدل على أن من يتولون قيادة الفكر والثقافة في مجتمعاتنا أقل من المهمة التي ندبوا أنفسهم لها، ولا سيما أننا نعيش في مجتمع يسعى للدخول إلى ثقافة (العولمة) في القرن الواحد والعشرين كما يقولون.
وإذا قرأت آراء الطرفين المؤيدين لهذه القصة، وكذلك الرافضين لها، تجدهم يتفقون على أنها حقائق عن (المجتمع) يجب أن تُقال، في حين أن الرافضين يرونها أكاذيب يجب ألا تُقال وكلا الطرفين -المؤيدون والمعارضون- يتناقشون خارج الموضوع تماماً.
|