إذا كان الله قد يسَّر القرآن للذِّكر، وتساءل:- وكلُّ تساؤل منه جلَّ وعلا مجاز - : هل من مدَّكر؟. فإنّ ثورة المعلومات والاتصالات قد أشاعت المنجز الإنساني، وجعلته مطروحاً في الطريق، يمر به البرُّ والفاجر، وأصبحت أفكار الغرب ومخترعاته وأنظمته وسلوكياته كما الليل الذي هو مدرك لكلِّ حي، وإن خال أن المنتأى عنه واسع. والإشكالية في المتلقِّي العربي، الذي قد يلتقط ما سيكون له عدوّاً وحزناً، فيما يعزب عن ذاكرته ما يحييه.
هذه المخترعات المبهرة، وتلك الصناعات المدهشة انتزع بها المسوِّقون لأفكارهم ونظمهم ورؤيتهم للكون والحياة والإنسان من المتسوقين الاندهاش المربك والاستجابة المطلقة. وما كانت تلك البضاعة المسوَّقة إلاّ قصراً على التفكير المادي والسلوك الشهواني، بحيث استحوذت على المتسوّقين الشهوات، وأضلّتهم (الأيديولوجيات)، فحققوا تداعي الأكلة وغثائية الكثرة. وإذا كانت المجتمعات المدنية تباشر التطعيم، كلّما داهمتها الأوبئة، حتى لا تكون مستوطنة، فإنّ واجب المجتمعات المستجيبة لله وللرسول أن تباشر التحصين الفكري، بأساليب حضارية، تقوم على التذكير النافع، والمجادلة بالحسنى. والفتَّانون من يمارسون التعميم في الأحكام، ويستمرئون الفوقية والتسلُّط، ويكرِّسون الحدية الصارمة. والبلاغ المبين لا يتحقق إلاّ بالتخول في الموعظة، والاستمالة باللين، والترويض بالإمتاع، والتطويع بالإقناع، ومراعاة مقتضى الحال، واختيار أيسر الأمرين. وما دخل الرِّفق في شيء إلاّ زانه:- {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ{(سورة آل عمران: 159).
ومواجهة الاختراقات الفكرية والأخلاقية المنظَّمة، لا تتم بالجهد الفردي، ولا بالابتسار الجزئي، ولا بالاهتياج الأعزل. والفرادة والتجزيئية والاهتياج تصعد المشكلة، وتزيد الارتكاس. واللوثة والتلوُّث ناتجا خطأ في التشخيص أو قصور في المواجهة، أو تعمُّد في إهمال الثنيات والثغور، أو إيغال في القول فيما لا يعقله الناس، أو إلحاح في طلب المستحيل. ولمّا لم يكن بالإمكان حسم المواقف بالمبادرات الفردية، فإنّ على أصحاب الأجواء المخترقة أن يدرؤوا عن أجوائهم بالمؤسسات المتخصصة، بعد دعمها بالكفاءات البشرية المؤهلة. وثورة المعلومات والاتصالات حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، وفرضت أساليب غاية في الدقة لمواجهة التحدِّي. فالغرب الذي فاضت مشاهده بالمذاهب الوضعية المادية، نبذ دينه وراء ظهره، وألقى عصاه في حقلي: المادة والعقل، ثم تحوَّل مركز التحكُّم عنده إلى العلم التجريبي، فعطل (اللاهوت) و(الناسوت)، وسخر من (الميتافيزيقا) حتى لقد سمَّاها بعض مفكِّري العرب المتلوثين بالمادية ب(الخرافة) ثم عدَّل ذلك بالموقف منها، وهو موقف يجسِّد اللوثة والتلوُّث والسقوط في وحل الماديات.
والدين الكنسي المحرَّف في العصور الوسطى بلغ من النفاذ والتسلُّط حدًّا لا يطاق، وعجزه عن الصمود أمام المكتشفات والمخترعات والعلم والعقل زواه في الأديرة، وحوَّله إلى ممارسة طقوسية، يباشرها الجسد عادة رتيبة مفرغة من محتوياتها الإيمانية والعملية، وتفريغ الأفئدة من الإيمان، أصابها بالخواء والتصحُّر، وحوَّلها من عالم الإنسان الوديع إلى عالم الحيوان المتوحش، و:(إذا الإيمان ضاع فلا أمان). وها هي غطرسة القوة تهلك الحرث والنسل، وها هو (الهرج) الذي أخبر من لا ينطق عن الهوى بكثرته يستفحل، حتى لا يعرف القاتل لماذا قَتل، ولا المقتول لماذا قُتِل. ومصير الغرب إلى العلمانية الشاملة فرضه عجز الدين عن مواجهة العلم واحتوائه، والنهوض بمطالب الحياة السوية. وقدر الأمّة المأزوم تتبعها لسنن الغرب، واستهلاكها لصناعاته، وقعودها كالطاعم الكاسي، ومن هنا تلوّثت الأجواء، والتاثت الأفكار. وكيف لا تتلوّث المشاهد، وهي مسرح للمذاهب والتيارات والأفكار والسلوكيات الغربية مجلوية أو طارئة. ومرد الوهن والحزن اشتغال المفكرين العرب بما لا حاجة لهم به، وتنازعهم حول قضايا فكرية لا تعنيهم بشيء، وهي قضايا لمَّا تبرح محيط النظريات الاحتمالية، وتساقطها أمام الجدل الفكري فوّت على مفكري الأمّة فرص المبادرات المستجيبة للحاجة.
ومهما أوغلنا في النَّيل من مآلات الحضارة المادية وبؤسها، فإنّنا - وتحقيقاً للمصداقية - ملزمون بالإشادة بالمنجز المادي المذهل، ومطالبون بالتحرف للمجيء بمثله. والتأكيد على أنّ القبول به، والاستفادة منه ليسا ملزمين للمصير إلى مسلّماته الفكرية وممارساته السلوكية. وإذا كان الغرب على علم بظاهر الحياة الدنيا فإنّ حرية التفكير والتعبير وإلغاء المرجعية أردت فكرهم في مهاوي الرذيلة والإلحاد، وأفقدتهم حفظ التوازن بين مطالب الروح والجسد. والوقوف من الفكر المادي الإلحادي والسقوط الأخلاقي لا يمنع من الإفادة والاستفادة، وتبادل الخبرات والمصالح، والركون إلى السلام والتعايش السلمي، والبر والعدل. لقد استفحل الضعف والتخلُّف بسبب التعالق مع القيم المعنوية والوقوف عند حد الاستهلاك الحسي، وبسبب تفويت الفرص المواتية للاستفادة من مناهج الغرب وآلياته ومؤسساته الإجرائية وعلمه التجريبي، فالقبول الشامل والرفض الشامل هما مكمن الداء، إنّ هناك خلطاً عجيباً بين التبادل والتماثل، وكأنّ الإسلام لا يتسع لما اتسعت له الحضارة الغربية من علوم بحتة وأنظمة ومؤسسات ومناهج وآليات لا تعدو محيط الوسائل، ولا تخرج عن أمور الدنيا التي نحن أدرى بها، بوصفها نوازل آنية، يعرف الحاضر منها ما لا يعرفه الغائب.
وحين ننشد الموقف الحضاري من الآخر، يجب أن نعرف له سبقه، وأن نعترف له بتفوُّقه، وأن نفعل فوق فعله، بعد تهيئة الأجواء الملائمة للبدء من حيث انتهى، وأن نميِّز بين اقتفاء أثره الفكري، وتفكيك شفرته العلمية. ولا شك أنّ تحقق الغثائية والتبعية ناشئ من التعالق الفكري والمفارقة المعرفية. فأين نحن من العلماء المكتشفين؟ وأين منا المعامل والمختبرات والمصانع؟ في ظل الأمر الرباني العازم بإعداد المستطاع من القوة، ومجيء المأمور به نكرة مؤشرٌ على العموم، فأي قوة حسية أو معنوية تردع الأعداء، تعد من الفروض الغائبة، ومفهوم الإرهاب بالقوة، كمفهوم قوة الرّدع في لغة القوة المعاصرة. وما سمعت مدَّعي التنوير يقولون بذلك، إنّ الانتماء إلى الإسلام يعني تفعيله بأوامره ونواهيه وأخلاقياته وتعاملاته وسائر أحكامه، وفي النهاية فإنّ (الدين المعاملة).
لقد تعالقنا مع الغرب، ورضينا من حضارته بما ليس لنا به حاجة، فكانت الفنون وكان المجون، وكان العهر والكفر، ولم يكن العلم وحواضنه، ولا الأنظمة وانضباطها. والذين لا يحبون الناصحين يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه، ويقوِّلون خصومهم ما لم يقولوا، فالتحذير من غزو الغرب وتآمره لا يقتضي اعتزاله، فضلاً عن مصادمته، ولا يعني تبرئة الذات المتخلفة من مقترفاتها. والاستجابة للغرب، والانسلاخ من قيم الحضارة الإسلامية لا تقيلان العثرة، بل تزيدان في الارتكاس والانتكاس. ونفاة الغزو والتآمر لا يتوفرون على تواصل حضاري مع الغرب، يسد الخلال. ومقدرات الأمّة ضاعت بين النفي والإثبات، ولن يُقال العثار إلا بالتنادي إلى كلمة سواء، تصد الغزو والتآمر، وتفتح الأبواب والنوافذ لمزيد من التواصل الإيجابي مع مختلف المنجزات البشرية، وبعث الثقة والوفاء بالعهود والمواثيق.
ومؤشرات اللوثة والالتياث متمثلة باستفحال التنابز بالألقاب بين أبناء الحضارة الواحدة وقابلية التبعية، وممارسة الفعل بشكل فوضوي فردي، لا تهيمن عليه مؤسسة، ولا ترصد لتحركاته (استراتيجية). وشواهد اللوثة أنّنا منذ (حملة نابليون) وحتى الآن وقادة الفكر وزعماء الإصلاح وروّاد النهضة في لجة أمسك فلاناً عن فل، وكلهم على اتصال متفاوت بالغرب، فمن مكفِّر يرى أنّ التكفير لا يتحقق إلاّ بالقتال، والقول بأنّ الكفر مؤذن بالقتال قول مخالف لصريح النص القرآني ولهذا استعيض عنه ب(الآخر) لتفادي المفاهيم التي يروِّجها المتطرِّفون عن الموقف من الكفر، وكان الأجدر تصحيح المفهوم لا الهروب من تبعاته، ومن مكفر لا يمنع بر الكافرين والإقساط إليهم، إلاّ في حالة القتال في الدين أو الإخراج من الديار، ومن متصالح متعايش مُسمع لكلام الله موفِّر للأمن، ومن راكن موالٍ ومداهن. وكلُّ فئة ترى أنّها تمارس الحق الذي لا يُعلى عليه، ولمَّا يستطع الخطاب العربي الاستواء على أرضية صلبة، فيما استطاع (الشعب الياباني) استثمار هذا التواصل دون مسخ أو انسلاخ، ومؤشرات الفشل مرتبطة بنوعية الاهتمام، وطرائق التواصل. ودم الأمّة ضاع بين الرأي العام المضلَّل، والنخب الفكرية المتناحرة، وتدخُّل القوى المتغطرسة في السيادة الإقليمية. فمن القاتل؟ ومن الولي الذي جعل الله له سلطاناً؟ إنّ عصر القرية الواحدة يختلف عن عصور القطيعة بين قرية وأخرى، وإذ تقترب الحضارات من التداخل، فإنّ مهمة أهل الحل والعقد عصيّة ومعقّدة، ولقد قلت، ولمّا أزل أقول: إنّ خطاب القوة يختلف عن خطاب الضعف، وأنّ التراجع للتحرُّف أو للتحيُّز يختلف عن الفرار من الزحف، وأنّ العصر عصر مؤسسات لا عصر أفراد.
|