أنا أعرف هذه الرياض منذ كنت فتى طسمياً، ومنذ كان اسمها (جوا) ومنذ أن اقتتلت قبيلتي وابنة عمها جديس، وتفانيتا تحت راية مليكها عمليق بن هباش وكانت من أحسن بلاد الله أرضا وأكثرها خيراً وشجراً ونخلاً وأذكر جيداً كيف لجأ رياح بن هرة إلى حسان التبعي ملك اليمن وأغاثه حتى قرّب الجيش من جوا ورأته اليمامة تلك الجميلة الزرقاء العينين، وقالت تنذر قومها مما رأت:
خذوا حذركم يا قوم ينفعكم ما فليس ما قد أرى الأمر يحتقر إني أرى شجراً من خلفها بشر لأمر اجتمع الأقوام والشجر |
ولكن قومي كذبوها فحلّ بهم الخراب الدمار، ومن يومها سميت هذه البلاد اليمامة نسبة إلى جدتي الزرقاء العينين.
وقيل: إن الملك التبعي أقام عليها دولة كندة التي قوضتها قبيلتي الأم ربيعة. ويقول صاحبي (ياقوت الحموي): إن أجدادي بنو حنيفة البكريين الوائليين من ربيعة قد خرجوا يتتبعون الريف ويرتادون الكلأ حتى قاربوا اليمامة موطن أسلافهم الغابرين فخرج جدي عبيد بن ثعلبة منتجعاً بأهله يتتبع مواقع القطر حتى نزل بقارات الجبل فخرج راعي إبله حتى قاع أطلال اليمامة فرأى (القصور والنخل وأرضا لها شأن) فبادر الراعي وأخبر سيده عبيد بقوله (والله أني رأيت آطاماً طوالاً وأشجاراً حساناً) فركب جدي عبيد حصانه ووجد ما سمع فركز رمحه فيها واحتجر منها ثلاثين قصراً وثلاثين حديقة ثم عاد إلى أهله فأنزلهم فيها، وقد قال صاحبي المؤرخ أبوالفداء: إن حجر مدينة اليمامة هي أكثر نخلاً من سائر الحجاز، وبها الحنطة والشعير وقال صديقه الطبري: إن اليمامة (من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيراً، وفيها صنوف الثمار ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة).
ويقول الرحالة ابن بطوطة هي مدينة خصبة ذات أنهار وأشجار يسكنها طوائف من العرب أكثرهم من بني حنيفة الوائلية والدليل على ذلك لم يزل يعرف بوادي حنيفية، وإن تهدمت حجراً فيما بعد وتقسمت إلى مجموعة من الرياض - جمع روضة - تزدهر بالعشب والنخيل والأشجار. أي أن الرياض لم تكن رياضاً صحراوية بل كما يقول الإخباريون والرحالة والرواة: إنها كانت من أجمل وأخصب بلاد الله التي تطرح الأثمار والأزهار في قلب صحراء العرب.
***
تلك هي الرياض التي أعرفها حينما كنت فيها أتسكع في التاريخ، أما اليوم وحينما عاودني الحنين إلى التسكع فيها فقد شهدت أحياءها القديمة التي أعرف صعاليكها واحداً واحداً وهالني هذا التغيّر الكبير في شوارعها التي تتشح بالزهر، وهكذا واصلت المسير حتى دلفت إلى ممر الزهور في حي صلاح الدين، وإذا بي أمام مهرجان كبير للأزهار التي لم أر لها مثيلاً في الدنيا ولست أدري كيف احتشدت كل أزهار الكون في مدينة الرياض والتي أعادت لها بالفعل اسمها الحقيقي الجميل وسأواصل التسكع فيها في المقالة القادمة.
|