Sunday 26th March,200612232العددالأحد 26 ,صفر 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

شيء من شيء من
العروبيون والمال
محمد عبداللطيف آل الشيخ

من أهم ثوابت الخطاب العروبي القومي المعاصر أن المال والثقافة نقيضان لا يجتمعان، وأن أولئك الذين يهتمون بالاقتصاد والمال من المثقفين لا يختلفون عن (الغربان) التي تتصارع في البحث عن غذائها في القمائم، كما جاء - مثلاً - في مقال لعبدالله الناصر في جريدة الرياض تحت عنوان (الأغربة).
ولعل النظرة الدونية للمال، وبالتالي للاقتصاد، تسربت في تقديري إلى الثقافة العروبية من بعض المقولات الإسلامية التراثية، التي تمجد (الزهد) وتحض عليه، وتعتبر أن عدم الانشغال بالمال مُؤشرٌ يدل على النقاء الإنساني.
كذلك كان للفكر الاشتراكي، الذي كان يتبناه (كأيديولوجيا) كثيرٌ من كبراء المثقفين والأدباء العروبيين خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وجزء من الثمانينيات من القرن المنصرم، أثر مفصلي في ترسيخ هذا التشوه في الخطاب العروبي.
ثم بعد أن فشلت الاشتراكية كحل حضاري، بانهيار الاتحاد السوفييتي وانتصار (اقتصاديات السوق)، يمكن القول إن (جهيزة قطعت قول كل خطيب).
فلا يمكن لأي مثقف موضوعي بعد اليوم أن يتجاوز حقيقة أن (الاقتصاد) بمعناه الرأسمالي، أوبلغة أدق: المال، هو محرك التنمية، وهو أس الحضارات والجذوة التي تشعلُ تفوقها، فالحضارة والمال هما طرفا المعادلة في أية عملية تنموية.
لذلك فإنني على قناعة تامة وعميقة أن سبب تخلف ثقافة (العروبيين)، وباعث سقوطها، واندحارها في صراع الحضارات، كان سببه الأول - وليس الوحيد بالطبع - تهميشهم للاقتصاد، واحتفالهم (بالفقر)، واحتفاءهم إلى حد (التمجيد) بالفقراء.
اقرأ أدبيات العروبيين، وشعرهم، فلن تجد (مسلمة) يتفقُ عليها الجميع مثل (تمجيد الفقر وذم الغنى والأغنياء)، وخذ شعر نزار قباني على وجه التحديد مثلاً.
أريدكم - فقط - أن تقارنوا بين تجربة (دبي) التنموية، وهي دولة صغيرة في مساحتها وتعداد سكانها لكنها (عملاقة) باقتصادها، وبين من تشاؤون من تلك الدول (العروبية) التي تبنت (القومية) كأيديولوجيا، وتقارنون بين النتائج.
دبي اختارت (الاقتصاد)، ونَحّت كل الأيديولوجيات (العروبية) وغير العروبية جانباً، فأصبحت دولة التحضر والتنمية التي لا تختلف كثيراً في مؤشراتها الحضارية، وفي الخدمات التي توفرها، وفي تدني نسبة الفقر فيها، وفي تساوي الفرص بين مواطنيها والمقيمين فيها، عن أي مدينة متحضرة.
فماذا سيكون الأمر لو تبنت نفس التجربة، وعلى نفس المنوال، بقيّة الدول (العروبية) التي ابتليت بالفكر القومي، ونحّت الاقتصاد جانباً، واحتفلت بالأيديولوجيا وثقافة الشعارات والمقولات والمعلبات العروبية.
وأنا هنا أضع دبي كنموذج على سبيل المثال لا الحصر. وقد كان العروبيون يُفرقون في خطابهم الثقافي بين عرب (الماء) وعرب (الصحراء)، أوكما يقول هيكل : عرب (المركز) وعرب (الأطراف)، وهرولَ كثيرٌ من السذج (العروبيين) وبالذات ممن يُطلق عليهم (مثقفين) من أبنائنا وراءهم، رغم أن (العرب) القاطنين على ضفاف الأنهار يعتبرونهم في تصنيفاتهم (من) عرب الصحراء، الذين هم حسب خطابهم المكتظ عنصرية عرب (الرجعية) الذين لا يمتون (للتقدم) ولا للتقدمية بصلة، وعند فرز النتائج، اتضح أن عرب الصحراء الأكثر (تقدماً) والسبب تركيزهم على الاقتصاد، بينما (تخلف) عرب الماء لأنهم (لوثوا) مياههم (بالأيديولوجيات) التي لا تجد في الاقتصاد بمعناه الرأسمالي إلا ثقافة الظلم الاجتماعي، وتسلط (البرجوازية) ، وتحكمها في القرار، على حساب و(حقوق) الطبقات الكادحة كما هو خطابهم الثقافي، فكان التخلف الحضاري و(الفقر) والجوع والمرض وتكدس القمائم من أهم مفرزات هذه الثقافة وهذه الدول، وأفضل مثال دولة صدام (النفطية) والعروبية، كي لا يقولون النفط هو السبب.
ولعل توجه الخطاب العروبي (المهزوم) مؤخراً إلى نقد هذه التجارب في المنطقة، والتي نجحت لأنها ركزت على (الاقتصاد)، من منطلق أنه (تغريب) أو (أغربة)، هو دليل إفلاس بكل المقاييس.
ففي سباق الحضارت العبرة بالنتائج وليس بالأيديولوجيات. ومثل هؤلاء الذين يتذرعون بهذه الذرائع، أوقل المغالطات، ويتكئون على تجييش العواطف، وشحذ العداء للآخر (الغرب)، هم لا يختلفون أبداً عن ذلك الطالب البليد الذي عندما أخفق في التميّز والتفوق بين أقرانه لجأ إلى مسح السبورة!
كل ما أردته من هذا المقال أن أدعو إلى إعادة النظر والنقاش والتمحيص والأخذ والعطاء في كثير من (المسلمات) التي سيطرت على ثقافتنا دون أية مجاملة ومحاباة لأحد، والتي هي في الغالب (مستوردة) من خارج محيطنا الثقافي، وليست منتجاً طبيعياً لثقافتنا المحلية. ولعل الثقافة (القومية) أو(العروبية) أفضل مثال.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved