القرار الملكي الذي اتخذه خادم الحرمين الشريفين تجاه أزمة سوق المال، وردود الفعل التي فاقت الوصف من قبل المواطنين، تؤكد أن البلاد يقودها رجل يستشعر معاناة المواطن، ويتلمس أحوالهم وأوضاعهم، ويتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وهذا القرار يؤكد أن الاستقرار السياسي في المملكة، وتجاوز هذه البلاد لكل التحديات التي واجهتها، منذ عبد العزيز وحتى عبد الله، لم تكن مجرد صدفة، ولم تكن نتيجة لعوامل قمعية أو تسلطية، بقدر ما كانت نتيجة لالتفاف المواطنين بالقيادة، وتفاعلها معهم، وتفاعلهم معها، وهو ما يمكن تسميته بكل موضوعية قوة ومتانة (العقد الاجتماعي) بين القمة والقاعدة.
الخبر الذي قلب أوضاع السوق رأساً على عقب، ومن الاحمرار (النازف) إلى الاخضرار (الوارف)، كان لفتة من قيادة هذه البلاد، ممثلة في خادم الحرمين الشريفين، تمت صياغتها بحكمة، وتنفيذها بذكاء وعملية، لتتحول أوضاع السوق في (نصف يوم) فقط إلى تلك الأخبار التي أثلجت القلوب، وأعادت البسمة إلى الشفاه.
كان بإمكان القيادة أن (تضخ) آلاف الملايين من صناديقها المالية لرفع أسعار أسهم الشركات المدرجة في السوق بجرة قلم، وهي قادرة مالياً على ذلك، وكان هذا هو الحل السهل، وربما المتوقع من الكثيرين بالمناسبة، غير أن القيادة اختارت طريقاً آخر، ربما أصعب، لكنه يحمل الكثير من المؤشرات التي تحمل في مضامينها أبعاداً ذات دلالة، فالذي حرك السوق، وفعله، وأعاد إليه الحيوية، هي القيادة أولاً والمواطنون ثانياً: فعندما وجدت نخبة من كبار المستثمرين في سوق المال رغبة أكيدة من القيادة لتدبر الأمر، بعد أن اجتمع بهم وزير المالية - كما تقول الأخبار - بأمر من خادم الحرمين الشريفين، ونقل لهم (فقط) رغبة القيادة، وحرصها على تنشيط السوق، كانت الاستجابة أسرع مما كنا نتوقع، بل لن أكون مبالغاً إن قلت: إنها أثبتت أن الجسد السعودي سريع التفاعل في الأزمات مع قيادته إلى درجة تدعو إلى الفخر، فالتداعيات الإيجابية التي أحدثها القرار الأخير تنم عن مدى التصاق المواطنين بقيادتهم وتواصلهم معها، ويثبت في الوقت ذاته، أو بلغة التحليل السياسي، أن الاستقرار الصلب والمستمر، والأمن المستتب الذي تعيشه المملكة، لم يأت من فراغ بقدر ما هو استقرار له كل المبررات والأسباب والبواعث لأن يبقى ويستمر ويترسخ.
أن (يؤشر) الملك - أيها السادة - فتستجيب له كل هذه الجموع، بهذه السرعة، وبهذه القوة، وبهذا الاندفاع، لا يمكن ان يمر على المراقب الذي يقرأ ما بين السطور، ويرصد المؤشرات، دون أن يجد فيه أن هذه البلاد بألف خير، وأن القيادة تتمتع بشعبية كاسحة، ومتجذرة في تأثيراتها ونفوذها ومتغلغلة في مفاصل مجتمعها، في زمن أصبحت فيه التحديات والقلاقل والتباعد بين القيادات وشعوبها هي السمة الغالبة في منطقتنا على وجه الخصوص. ولا أظنني أحتاج إلى دليل لإثبات ذلك، فهذا الحدث وأسلوب المعالجة يؤكدان ما أقول.
الأمر الآخر، والذي أثبتته هذه الأزمة بمنتهى الوضوح، وبشكل لا يمكن تجاوزه بعد الآن، يكمن في أن (الرياض) إذا زكمت عطست كل العواصم المحيطة بها، وإذا شفيت شفي الجميع.
قرار الملك عبد الله الأخير لم يهبط (برداً وسلاماً) على السعوديين فحسب، وإنما امتدت تأثيراته إلى كل عواصم المنطقة، وأسواقها المالية، لا أقول هذا جزافاً وإنما تقوله الأرقام التي لا تكذب، فعندما انحدرت أسعار الأسهم في المملكة بشكل وصفه البعض بأنه انهيار، انحدرت معها تقريباً كل مؤشرات أسواق المال في المنطقة، الأمر الذي يؤكد أن الرياض هي عاصمة القرار الاقتصادي لكل دول المنطقة، وإن عمقها الاقتصادي هو عمق استراتيجي تتخطى تأثيراته الحدود والمواطن السعودي لتصل إلى كل دول الجوار.
وإذا كان لهذه الأزمة من إيجابيات، فإن من أهم إيجابياتها أنها ستخلق بيئة استثمارية مناسبة وقوية داخل المملكة للمقيمين في البلاد من غير السعوديين، حيث وجَّه الملك عبد الله بدراسة فكرة السماح للمقيمين الأجانب بالمضاربة مباشرة في سوق الأسهم السعودية، وكل المؤشرات تفيد بأن هذا القرار سيتم اتخاذه في المدى المنظور، نظراً لأنه أحد القرارات التي من شأنها تشجيع بقاء نسبة كبيرة من مستحقات العاملين الأجانب في السوق السعودي، بدلاً من هجرتها إلى الخارج، وما من شك أن بقاء هذه الأموال في السوق السعودي سيعمل - وإن بطريق غير مباشر - على تقوية وتمتين القاعدة الائتمانية للاقتصاد السعودي في المحصلة النهائية، مما سينعكس بكل تأكيد على تقوية البيئة الاقتصادية السعودية نفسها، كما أن مثل هذا القرار ينسجم تماماً مع توجهات المملكة في تشجيع رأس المال الأجنبي للاستثمار داخل البلاد، وكذلك مع معطيات عضوية المملكة لمنظمة التجارة العالمية wto) )والذي أعلن عنه مؤخراً.
كل ما أريد أن أقوله هنا، إن أسلوب معالجة القيادة لأزمة سوق الأسهم، لم ينعكس إيجابياً على المستثمرين فحسب، وإنما كان له إيجابيات أخرى على أكثر من مسار. وهي بكل المقاييس تؤكد قدرة المؤسسة الحاكمة السعودية، ممثلة في جهازها البيروقراطي، وكذلك في نسيجها الاجتماعي، وبالذات قطاع رجال الأعمال، على التعامل مع الأزمات بوعي وحصافة وحرفية؛ وهذا كل ما يؤمله الإنسان، أي إنسان، من حكومته، والأرقام أكبر دليل.
|