إن الاكتشاف الحقيقي ليس في اكتشاف أراضٍ جديدة ولكن في اكتشاف رؤية جديدة
مارسيل بروست
تقول الحكاية إنه في أوائل التسعينات كان هناك سيدة إيطالية تدعى الابرسيوسيا، قتلت زوجها مهندس الجسور البولوني كلارج بليد في أمسية ربيعية بدفعه بقوة من فوق أحد الجسور، وعللت فعلتها الشنيعة بأنها كانت تعيش مع جسر وليس مع رجل. كان الجسر هو كل حياته ومحور اهتمامه منذ الصباح إلى المساء، في الأيام العادية وفي السهرات، حتى الإجازات كان يسافر إلى الأماكن التي فيها جسور ويبحث عنها وعن تاريخها المعماري...
إن جريمة السيدة لابرسيوسيا تحولت في ذلك الوقت إلى قضية اجتماعية واقتصادية ونفسية، وكان أبرز عناوينها هو (الإدمان على العمل).
الإدمان على العمل مثله مثل حالات الإدمان الأخرى والتي نراها في مجتمعنا. مدمن العمل مثله مثل مدمن الكحول، وقد بين الروائي سكوت فيتزجيرالد هذه العلاقة بقوله (الإدمان على العمل كما الإدمان على الكحول كلاهما يدمر الروح).
عبارة فيزجيرالد منحت بعض العزاء للعاطلين عن العمل في فترة الكساد الاقتصادي في الثلاثينات في الولايات المتحدة، لأنه ليس هناك من يبحث عن تدمير روحه. مدمن العمل لا يعرف متى يضع حدوداً لعمله ولا يسأل نفسه متى سيتوقف، فهو يدور في محيط دائرة لا يستطيع الفكاك منها، وهو ظاهرة في كافة أنشطة الحياة ابتداءً من العمل المنزلي، التدريس، الطب، الأسهم التي أصبحت ظاهرة واضحة خصوصاً لدى الفئة التي اتجهت إليها حديثاً.
في مقال يدرس بالجامعات البريطانية للكاتب برتراند راسل بين فيه بأن الإنسان الغربي (ضيق الأفق) لأنه يعدّ العمل قيمة بحد ذاته، بينما الواقع هو أن العمل قيمة بمقدار ما يجعل الإنسان أكثر حرية، فالموظف دائماً يعيش بانتظار العودة إلى العمل لأنه دائماً يعيش في فراغ بعد ترك عمله، لذا فإنه يعمل على قتل الوقت الفاصل بين فترتي العمل، وهذه عبودية مؤبدة لا يستطيع الفكاك منها.
إحدى الصديقات تقول كنت أظن أن مؤسستي سوف تتوقف وتنتهي إذا غبت يوماً أو تأخرت، وكنت طوال العشرين عاماً أحد أعمدتها لم أتغيب يوماً واحداً، وفي يوم ما مرضت واضطررت إلى أخذ إجازة مرضية لفترة طويلة... وكانت تلك الفترة هي الفترة الحقيقية لمراجعة الحسابات، اكتشفت أن الحياة تسير وأن العمل لم يتوقف أو حتى لم يتأثر بغيابي، وأن من دفع الثمن هو أنا من صحتي وسنوات عمري التي مضت دون موازنة بين متطلباتي ومتطلبات العمل.
تتلخص نظرية الإدمان على العمل في أنه كلما كثرت ساعات عملك كلما زادت إنتاجيتك، فالعمل الذي ينجز في ست ساعات ينجز ضعفه في اثنتي عشرة ساعة عمل في اليوم... وهنا يكون الخداع المبطن لأنه في الحقيقة هناك فرق بين الإنتاجية والنشاط، ويجد هؤلاء التبجيل والاحترام من إداراتهم أو يشعرون بالتقدير الذاتي ويستمرون في السير حتى المراحل الأخيرة المدمرة من هذه الظاهرة والتي تؤدي إلى الانهيار الأسري أو الصحي.
إن الدوران في دوامة العمل يلغي الكثير من مباهج الحياة ويحرم الفرد من الاسترخاء والتمتع بحرية حقيقية. إن حياتنا تحتاج إلى موازنة لشحن الطاقة من جديد ورؤية الجوانب الأخرى من الحياة، وهذا يتفق مع قول رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
|