ستبقى قضية الحرية التي يتغنى بها الغرب على مدار الساعة إشكالية حضارية يصعب علينا تحليل رموزها، قضية يصعب فهمها على المسلمينالذين يرون أن معايير هذه الحرية تتأرجح من قضية إلى أخرى وفق مقاييس قد تضيق أو تتسع حسب مزاج ونوع وعرق أصحاب تلك القضية.
إن معيار الحرية الشخصية زئبقي لدى الغرب، فمن سابع المستحيلات الكلام عن الهولوكوست أو ما يتصل بها رغم أنها مجرد حادثة تاريخية، وقد دفع الكثير من المفكرين والمؤرخين ثمن رؤيتهم المخالفة لهذه القضية، أما فيما يتعلق بالإسلام وقيمه وثوابته، فالأبواب مفتوحة للنقد والتجريح والتطاول تحت تأثير مسمى هلامي مطاطي هو حرية التعبير وحرية الرأي.
هل حرية التعبير تسمح بالتطاول على الرسل والأنبياء؟
وأين هم من قوانينهم التي تنص أن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين؟
في الثمانينيات تدخلت مارغريت تاتشر لمنع نشر كتاب يتعلق بحياة المسيح عليه السلام ولم يعد هذا الأمر انتقاصاً لحرية التعبير أم إن حرية الرأي لا تطال إلا نبي المسلمين عليه الصلاة والسلام.
ولو حاولنا أن نحلل الموقف الغربي نرى أن الصحيفة قدمت تفسيرات غير مقنعة، وأيدت معظم الصحف الدنماركية موقف الصحيفة، وكانت ردود فعل رئيس الوزراء الدنماركي متعالية ومستهترة بمشاعر أكثر من مليار مسلم، وكالورم السرطاني امتدت العدوى إلى الصحيفة الفرنسية (فرانس سوار) التي عللت سبب إعادة نشر الصور في افتتاحيتها أنه لا يوجد في الرسوم أي إهانة أو تحقير لأي أحد أو دين، وأن بعض هذه الصور طريفة جداً، لذا قررت الجريدة نشرها. وامتدت عدوى نشر الصور والاستهانة بنبينا الكريم - للأسف - إلى صحف أخرى قد نجد هدفاً مبطناً لتلك الصحف الغربية في نشر تلك الصور، ولكن ما عذر صحفنا العربية والمسلمة تُجَارِي تلك الصحف وتعلل ذلك بأنه مجرد فضول.
إن مسلسل الاستهانة وتوسيع دائرة نشر تلك الصور هي خطة لتشتيت غضبة الشعوب المسلمة ومقاطعتها لدولة الدنمارك، ولكن هذا لن ينجح لأن الغرب لا يعرف ماذا يعني الرسول - صلى الله عليه وسلم - لدى كل مسلم.
الحقيقة إن التطاول على رسولنا الكريم ما هو إلا نتاج ضعفنا وتقصيرنا في حق ديننا، ولو تحركنا منذ البداية ومنذ أن تم تمزيق قرآننا ما كان هذا حالنا ولا أصبح هذا الصراع العقائدي بهذه القوة. هم في الغرب ينادون بالحوار بين الشرق والغرب والحوار بين الأديان، ولكن الحقيقة التي تكشفت لنا بعد هذه الحادثة هو عكس ذلك تماماً، فاتحاد الغرب في التبرير للصحيفة الدنماركية ومن سار على دربها والتضييق ورفض احتجاجنا كمسلمين على نشر هذه الصور أو المساس بثوابت عقيدتنا ينسف أي جسور لإقامة ما يسمونه حوار الحضارات.
ولكننا كمسلمين ديننا ونبينا عليه الصلاة والسلام درَّبنا على أن أهم قاعدة ربانية وهي: أننا لا نعلم من أين تهب رياح الخير، فرب ضارة نافعة؛ فللمرة الأولى تتحد جميع الشعوب المسلمة على استنكار ما حدث وتغضب لنبيها غضبة رجل واحد. وكذلك كان هذا بالنسبة إلينا بمثابة إضاءة للعودة إلى كتب السيرة وقراءتها من جديد، إذ إنها تضيف الكثير من المعاني للحياة وتمنح المسلم القوة وتعمق الإيمان ويستشعر المسلم المسؤولية في داخله لنقل تلك السيرة والتعريف بها. محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام الذي بكت وأنَّت له نخلة وهو قائم يخطب قبل بناء منبره عليه السلام، فإذا كان النخل يحنُّ لرسول الله، فما بال البشر تتمادى في قسوتها واستهزائها به، فكما قال جده أبو طالب يوم الفيل: إن للبيت رباً يحميه. وصدق في مقولته. فنحن أيضاً نؤمن بأنه لن يضره شيء، فالله هو الذي يدافع عنه ويرد عنه، فالحق سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} سورة الحجر (95). لكننا كمسلمين نتحمل جزءاً من هذه المسؤولية وأن علينا أعباءً كثيرة لنصرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكلاً حسب موقعه منها؛ فالمقاطعة الاقتصادية سلاح فعَّال، ولا سيما أن الغرب لا يعرف سوى معادلة الربح والخسارة ومنطق القوة وتعريف الغرب برسولنا الكريم وذلك من خلال المواقع الإلكترونية والندوات والمحاضرات والمؤتمرات التي ينشط فيها الدعاة، وكذلك السعي الجاد والضغط لإصدار تشريع دولي يمنع الاستهزاء والتطاول على شخصية الرسول أو على أي نبي من أنبياء الله عليهم السلام، ووضع معايير ثابتة وواضحة تحمي معتقدات أكثر من مليار من البشر أسوة بتلك التي تحمي التاريخ اليهودي من التعرض له.
|